نظرية المعنى عند شيخ الإسلام ابن تيمية ومسألة المجاز
نظرية المعنى عند شيخ الإسلام ابن تيمية ومسألة المجاز
هذا المقال بالأساس هو تلخيض للفصل الرابع من كتاب " العقل والوحي عند ابن تيمية: دراسة لكتاب درء التعارض" للباحث كارل شريف الطوبجي أستاذ الدراسات العربية والإسلامية المشارك بجامعة برانديز. و كذلك ورقة بحثية للباحث عبد الرحمن مصطفى من جامعة بادربورن" بعنوان " ابن تيمية و فيتغنشتاين في شأن اللغة" والتي يعرض فيها بعض أوجه الاتفاق بين رؤية ابن تيمية وتلميذه ابن القيم اللغوية وفلسفة هذا الأخير اللغوية - والذي ينتمى لاتجاه الفلسفة التحليلية analytic philosophy - والتي من ملامحها أن اللغة تنشأ بالاستعمال و " مبدأ السياق" context principle. وهو حاضر أيضا في أعمال بعض الفلاسفة التحليليين الآخرين مثل جوتلوب فريجه Frege وبرتراند راسل Russell وكذلك ورثة تركة فتغنشتاين Wittgensteinمثل جون سيرل Searle.
مقدمة
عندما يزعم الفلاسفة و المتكملون وجود تعارض بين النص والعقل فهم يعنون بذلك أن المعلومات بالضرورة من العقل تصادم ظواهر النصوص أو معانيها الحرفية لاسيما، وهذا ما يوليه ابن تيمية اهتماما خاصا، ما تصرح به النصوص بشأن أسماء الله وصفاته.
ووفق رؤية ابن تيمية فإن ما يقول به هؤلاء الفلاسفة والمتكلمون أن الحقيقة فيما يخص ما تتناوله النصوص من مسائل العقيدة يٌتوصل إليها من خلال استنتجات منطقية بواسطة النظر العقلي بمعزل عن النصوص، ثم لابد من تأويل أو إعادة تفسير النصوص في ضوء تلك الاستنتاجات بحيث تنسجم معها.
وقد تباين هؤلاء بشأن موقفهم من "التناقض" المزعوم بين صريح المعقول والمنقول، ولعل أشدهم غلوا وشططا هم الفلاسفة الذين اختزلوا النصوص في كونها مجرد خطاب موجه للعوام يحثهم على الفضائل و أنكروا أي دور للنص في إيصال أية حقائق وجودية أو ماورائية أو عقدية، فزعموا أن ذلك هو مجال العقل وحده، وليس أي عقل، بل عقول نخبة من الناس ألا وهم الفلاسفة!.
وكان هناك اتجاه أقل حدة وتطرفا من موقف الفلاسفة وهم المتكلمون من المعتزلة ومتأخري الأشاعرة كالإمام فخر الدين الرازي الذين زعموا أن النصوص تنطوي على معان صحيحة لكن يتوصل إليها بالنظر العقلي والذي قد يتعارض و ظواهر تلك النصوص.
وفي معارضة قاطعة لهذا التوجه فقد ذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله إلى أن المعاني الحقيقية التي تنطوي عليها النصوص يمكن التوصل إليها من خلال عوامل داخلية في النصوص نفسها دون حاجة بنا إلى اللجوء إلى أي عوامل أو اعتبارات خارجة عن النص خاصة نتائج التأملات الفلسفية أو النظر العقلي كما يمارسه الفلاسفة و المتكلمون.
وقد كان الهم الشاغل لابن تيمية في كتابه "درء التعارض" هو الدفاع عن المعنى الصريح و الإثبات المباشر لصفات الله كما جاءت بها النصوص ضد نفي وتعطيل الفلاسفة والمتكلمين لتلك الصفات باعتبار أن هذه هي الطريقة التي أجمع السلف عليها في تناول النصوص التي تتعلق بالأسماء والصفات.
وكان ما يعترض به الفلاسفة والمتكملون على الأخذ بالمعاني الصريحة الظاهرة للنصوص أن ظواهر تلك النصوص مثل إثبات اليد تقتضي التشبيه و التمثيل وهو ما يتعارض مع تفرد الله بالألوهية وعدم مشابهته للمخلوقات و الحوادث.
لكن هل توجه ابن تيمية للأخذ بالمعاني الصريحة للنصوص وتفنيد الحجج العقلية التي يدلي بها المتكلمون والفلاسفة ضد الأخذ بتلك المعاني الصريحة يجعل منه ظاهريا يتسم ببساطة التفكير كما يدعى خصومه؟
فنظرية ابن تيمية في التفسير كانت تفهم من قبل خصومه على أنها دعوة إلى نفي المجاز في اللغة وإهمال كل المعاني غير الظاهرة في نصوص القرآن والسنة. وفهم البعض نفيه للمجاز على أنه علامه على القول بالتجسم وليس طرحا لأنموذج بديل عن التواصل اللغوي.
أما ابن تيمية فمن ناحيته، ومع توجهه الصارم في إثبات الصفات، لا يرى في نفسه مشبها ولا مجسما بل ينكر بشدة على أي تصور أو رأي يرى أنه يقتضى تشبيها أو تمثيلا.
لكن كيف يمكن لابن تيمية أن يؤسس تفسيره للنصوص على عوامل لغوية ونصية دون الوقوع في شَرَك التوجه الظاهري (أو القول بالمعنى الحرفي النص) وكيف ينكر تأويل النصوص (على طريقة الفلاسفة والمتكلمين) دون التورط في التشبيه والتمثيل؟. وكيف يمكنه الدعوة إلى الاستقلال بالتفسير عن التأملات الفلسفية والنظر العقلي كما يمارسه الفلاسفة والمتكلمون دون أن يسفر ذلك عن تقويض مشروعه الكبير الذي لا يتضمن استبعاد العقل بل إعادة تأهيله ورده لما يرى أنه الصورة النقية وكيف أنه على تلك الصورة يكون في حالة انسجام مع النصوص؟ والجواب على هذه الأسئلة ونحوها هو فيما يلى.
لقد اعتمد مؤلف الكتاب في جواب تلك الأسئلة على نصوص متفرقة في كتاب "درء التعارض" تتعلق باللغة وتفسير النصوص محاولا إيضاح المبادئ الرئيسية في فلسفة ابن تيمية اللغوية وكذلك ملامح منهجه في تفسير النصوص كما تظهر في كتاب درء التعارض. وهذه المبادئ وتلك الملامح تنسجم مع المنهجية التي أرسى دعائمها في مؤلفاته الأخرى كالفتاوى والرد على المنطقيين والرسالة التي جردها لهذا الغرض وتعرف بمقدمة في أصول التفسير.
يمكن القول أن مقاربة ابن تيمية لتأويل نصوص الوحي واللغة بوجه عام ترتكز على دعامتين رئيسيتين وهما "السياق أو القرائن" و " العرف اللغوي". ويكملهما تفسير السلف لنصوص الوحي وكذلك المبدأ الذي رسخه القرآن من أنه كتاب يتسم بالوضوح ويخلو من الغموض من خلال ذكره مرارا وتكرار أنه كتاب مبين أو بلسان مبين (في ثمانية مواضع).
وبالنسبة لابن تيمية فمعنى نص الوحي على أنه مبين يعني أنه واضح خال من الغموض ويفسر نفسه بنفسه وليس بحاجة إلى اللجوء إلى مصادر خارجة عن النص كالتأمل الفلسفي لفهم معانيه.
يبدأ المؤلف أولا بمسألة التفسير السياقي للنصوص والتي يعدها ملمحا بارزا في منهج ابن تيمية في التفسير. ويتضمن ذلك مناقشة موجزة لمسألة هل اللغة تحتوي على المجاز أم لا. وإذا كان ابن تيمية ينفي المجاز فماذا عن الآية التي في سورة آل عمران و التي تنص على أن من آيات القرآن ما هو محكم ومنها ما هو متشابه والتي يزعم البعض أنها تؤيد مفهوم التأويل وكذلك المفهوم الوثيق الصلة به ألا وهو مفهوم "التفويض". ويلي ذلك نماذج لمنهجية ابن تيمية في التفسير تختص ببعض الآيات والأحاديث التي يرى البعض أنه لا مفر من تأويلها وفق مفهوم المتكلمين للتأويل.
ثم يلي ذلك مناقشة الركيزة الثانية في منهجية ابن تيمية ألا وهي مسألة "العرف اللغوي" وكيف أنه يقدم الأعراف اللغوية على التأمل الفلسفي في فهم النصوص. ويناقش الأسباب النظرية التي دعت ابن تيمية لمنح الأولوية للعرف اللغوي ثم تناوله لظاهرة تغير الأعراف اللغوية من جيل لآخر وعبر الاختصاصات المختلفة وهو ما ينشأ عنه ألفاظ مجملة مشتبهة والتي يلقي عليها ابن تيمية باللائمة فيما يتعلق بالانحرافات التي حدثت في فهم نصوص الوحي.
مفهوم التأويل ومعنى الآية السابعة من سورة آل عمران
يؤكد ابن تيمية، كما تقدم، على أن الوحي مستقل تمامًا عما سواه في إيصال معانيه يقينا ، ولكن كيف يمكننا تحديد ما هي تلك المعاني؟. في الواقع ، قد يعترض البعض، بأننا نعلم من القرآن نفسه أنه يحتوي على آيات يجب ألا تؤخذ على ظاهرها، وأن بعض آياته "واضحة" و البعض الآخر "مشتبه" ، وأن الآيات المشتبهة لها معنى مجازي غير حرفي يجب تحديده من خلال إعمال التأويل. في المقابل، يؤكد ابن تيمية على أن الأمر ليس كذلك. فنصوص الوحي لا تؤيد ما هو مقصود بمصطلح "التأويل" في عرف الفلاسفة والمتكلمين.
فالتأويل بمعني صرف النص عن المعنى الراجح (الظاهر) إلى معنى آخر مرجوح (مجازي) هو مفهوم اصطلح عليه الفلاسفة والمتكملون لاحقا ولم يكن هذا هو المقصود به لا في زمن نزول القرآن ولا لعدة أجيال لاحقة. وكذلك تقسيم الكلام إلى حقيقي ومجازي لا وجود له في مؤلفات أئمة النحو كالخليل وسيبويه وكذلك في المؤلفات المبكرة في أصول الفقه كالرسالة للشافعي.
وقد استدل ابن تيمية على ذلك من خلال استقراء أقوال السلف في المقصود بالتأويل في الآية ليثبت أن أقوالهم في ذلك لم تخرج عن مفهومين للتأويل بالأساس لا يتضمنان المفهوم الاصطلاحي للفلاسفة والمتكلمين اللاحقين. بل كانوا يثبتون المعاني الواضحة الظاهرة للنصوص مع تفويض "الكيف" فيما يخص بعض الأمور الغيبية، لاسيما اسماء الله وصفاته، لكنهم لم يأولوا الآيات (وفق مفهوم المتكلمين) ألبتة، ولم يفوضوا معانيها. فهم إن فوضوا شيئا فقد فوضوا الكيف لا المعنى.
ذهب الفلاسفة والمتكلمون إلى أن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. الآية، يعني أن بعض آيات القرآن والتي أشير إليها بوصف "المتشابهات" إما أنه لا سبيل إلى معرفة المقصود منها، وهذا إذا قُرىء بالوقف على لفظ الجلالة " الله" في قوله " وما يعلم تأويله إلا الله"، وفي هذه الحال لابد من التفويض أي الإقرار بأن المعنى الظاهر ليس مقصودا دون اقتراح معنى بدليل. وإما أن معرفة المقصود بها يقتصر على الراسخين في العلم فضلا عن الله، وهذا إذا قُرىء بالوصل، وفي هذه الحال يقال بأن المعنى الظاهر ليس مقصودا لكن يمكن للراسخين في العلم اقتراح المعاني البديلة، حبذا دون الجزم بأن احداها هو المقصود، ويكون ذلك من خلال إعادة تفسير الآيات وفق ما تمليه قواعد المنطق، وبما يتوافق مع قواعد النحو، كما يتصورها الفلاسفة والمتكلمون. والقرآن وإن لم يحدد ما هو المحكم وما هو المتشابه من آياته إلا أن هؤلاء ذهبوا إلى أن المتشابه من الآيات هو ما يعارض ظاهره "قواعد المنطق" كما يتصورنها.
من جانبه فقد رفض ابن تيمية هذا التعريف "الاصطلاحي" للفظ التأويل وعملية التفسير المجازي للنصوص التي تتم تحت عباءته. فهذا التعريف لم يكن معلوما للسلف الذين نزل القرآن بلغتهم، فوفق عادتهم في الخطاب أو أعرافهم اللغوية يجب أن يفهم المقصود بلفظ "التأويل".
فلفظ "التأويل" في الآية وفق عادة السلف في الخطاب وفهمهم يأتي إما بمعنى التفسير والبيان والإيضاح بحيث تستوعبه العقول، أو بمعنى حقيقة الشىء أو كيفيته. فالمعنى الأول إذا هو المقصود بالآية إذا قٌرىء بالوصل وهو قول لابن عباس وقول مجاهد ومحمد بن جعفر بن أبي طالب وابن إسحاق وابن قتيبة وآخرين. والمعنى الثاني هو المقصود إذا قرىء بالوقف وهو قول لابن عباس وقول أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وعروة بن الزبير. وعلى هذا يكون المقصود إذا قُرىء بالوقف أن بعض الأمور الغيبية، ككيفية صفات الله وأفعاله وحقيقة أحداث القيامة، لا يعلمها إلا الله.
ولذلك كان السلف كمالك بن أنس وشيخه "ربيعة الرأي" يقولون في تفسير قوله تعالى: ثم استوى على العرش. الآية، الاستواء معلوم ( أي معلوم المعنى) والكيف مجهول. وكذلك قال غيرهم كابن الماجشون وأحمد بن حنبل لا نعلم كيفية ما أثبته الله لنفسه (من الأفعال والصفات) لكننا نعلم تفسيره ومعناه. وروي عن الحسن البصري أنه قال: ما نزل الله آية إلا وهو يحب أن يُعلم ما أراد بها.
وهناك معنى ثالث للفظ التأويل في أقوال السلف وهو ما يتعلق بالأمر والنهي فالتزام الأمر واجتناب النهي هو تأويل لهما ومن ذلك قول سفيان بن عيينة : السنة تأويل الأمر والنهي. ويروى ذلك أيضا عن أم المؤمنين عائشة وعروة بن الزبير.
محورية السياق
أشرنا سابقا إلى أن النصوص بالنسبة لابن تيمية لا تجيز التأويل وفق مفهوم الفلاسفة والمتكلمين بمعنى صرف النص عن معناه الظاهر الحقيقي إلى معنى آخر مجازي. فهل من الصحيح أن ابن تيمية لم يكن يعتقد بوجود المجاز في اللغة بوجه عام ونصوص الوحي بوجه خاص؟ أو بعبارة أخرى، هل لم يكن يعتقد في نظير التأويل الذي كان يقول به الفلاسفة والمتكلمون؟ للجواب على هذا التساؤل لابد أن نتفحص جيدا رؤية ابن تيمية للدور المحوري للسياق في تحديد معنى الكلام ومقاصد النصوص مع الأخذ في الاعتبار العوامل اللغوية فقط في تحديد ذلك، في مقابل تصور المعنى الراجح والمرجوح ودور العقل الحاسم في تحديد المقصود كما هو عند الفلاسفة والمتكلمين.
فيما يتعلق باللغة بوجه عام، عندما يقول ابن تيمية بأنه لا وجود للمجاز في اللغة - وبالتالي لا تأويل وفق تصور المتكلمين - فهو لا يقول بأن الكلمات لها معنى واحد فقط أو أنه يجب فهمها دائمًا بمعناها الظاهر، أو ما يشار إليه عادةً بالمعنى "الحرفي" أو "الحقيقي" أو "الراجح". وبدلاً من ذلك ، يؤكد أن التمييز بين "المعنى الحقيقي" و "المجازي" مصطنع، ومجرد تقدير ذهني منفصل عن الطريقة التي تعمل بها اللغة في الواقع.
والسبب في ذلك الفصل أو التمييز هو التصور الأرسطي عن نشأة اللغة – والذي أخذ به الفلاسفة والمتكلمون - من خلال اتفاق أهل لغة من اللغات على وضع ألفاظ معينة (تشكل قاموس تلك اللغة) للدلالة على معان معينة. وقد فند ابن تيمية هذا الزعم بالقول بأنه لا دليل على أن أهل لغة من اللغات اجتمعوا لكي يضعوا ألفاظا معينة للدلالة على معان معينة (بحيث تكون هي وحدها المعاني الحقيقية لتلك الألفاظ وما سواها مجازي). وتواصلهم فيما بينهم - كما ذكر أيضا أبو إسحاق الإسفرائيني وغيره - لكي يضعوا ألفاظا معينة للدلالة على معان معينة يقتضى أنهم يتحدثون بالفعل بلغة ما فكيف نشأت لغة التواصل تلك بدورها؟ وهذا الكلام يشبه قولهم في التعريف أو الحد. فزعموا أن الأشياء لا يمكن تصورها إلا من خلال التعريف أو الحد ففند قولهم ذلك بأن الذي يضع التعريف إما أنه يتصور الشىء الذي يعرفه وبالتالي فهو لم يكن بحاجة للتعريف كي يتصوره وإما أنه لا يتصوره وبالتالي من أين له بهذا التعريف؟ فكيف يُعرّف شيئا لا يتصوره أصلا!.
وكان ابن تيمية يرى أن أصل اللغة نشأ بإلهام من الله في مقابل نظرية الوضع تلك. والمقصود بذلك أن الله رَكَّب في آدم القدرة على الإفصاح والبيان عما يتصوره من معاني من خلال الألفاظ والعبارات فضلا عن تعليمه نفس المفاهيم التي يراد الإفصاح عنها. وهذا ينسجم مع قوله تعالى: خلق الإنسان علمه البيان. وكذلك قوله: وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. وقد قال البعض أن مدلول الآية أن الله وقّف آدم على أسماء الأشياء بأن عرضها عليه شيئا فشيئا وأخبره بأسمائها، غير أن هذا فيه نظر لأن فضل آدم على الملائكة هو ما رُكِّب فيه من القدرة على إطلاق الألفاظ(الأسماء) على ما يتصوره ويعنيه سواءا كان اسما أو فعلا أو حرفا وفق اصطلاح النحاة وكذلك صياغة العبارات ليدل بها على معان شتى وإلا فعلم الملائكة للأسماء هو توقيفي ولذا لما عرضت عليهم مسميات لم يوقفوا على أسمائها قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا. ففضل آدم ليس بمجرد توقيفه على عدد أكبر من الأسماء بل بتركيب القدرة على إطلاق الأسماء على المسميات، وهي من الناحية النظرية لا حد لها ولأجل هذا تشعبت الألسن بمرور الوقت وعد المولي عز وجل ذلك آية من آياته فقال: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ.
وهذا يشبه نظرية "النحو الكلي" لنعوم تشومسكي Chomsky حيث يرى أن الإنسان رُكِّبت في دماغه القدرة على صياغة العبارة والنطق بها للتعبير عن مراده وفق قواعد كلية عامة يشترك فيها الآدميين أطلق عليها وصف النحو الكلي universal grammar ومن ذلك التمييز بين الأسماء والأفعال والحروف والتمييز بين زمن وآخر ونحو ذلك من السمات العامة التي تشترك فيها اللغات الآدمية. ويرى أن هذه القدرة نشأت دفعة واحدة نتيجة "طفرة". وهناك دراسة منشورة بمجلة الطبيعة عام 2009 ربطت بين "تطفر" الجين FOXP2 (في نفس الأمر الاختلاف بين هذا الجين في الإنسان ونظيره في القردة) ونشأة اللغة في الآدميين تؤيد ما طرحه ناعوم تشومسكي.
لقد كان ابن تيمية مقرا بأن كثير من الألفاظ قد تستخدم للدلالة على معان كثيرة أحيانا من باب المشكك أو التواطؤ اللفظي أو الاشتراك اللفظي. فعلى على سبيل المثال كان يقر بأن كلمة "يد" وفق العرف اللغوي لم تكن تستخدم للدلالة فقط على اليد الجارحة التي لها خمسة أصابع. بل بحسب السياق قد تدل على معان أخرى مثل العون أو المساعدة (بحكم نقل استعمال اللفظ إلى تلك المعاني) أو أي شيء يشترك في المعنى العام مع اليد الجارحة. لكن ما يرفضه هو أن للألفاظ معان حرفية أو حقيقية أولية – مستقلة تماما عن أي سياق – والتي قد نلجأ إلى صرف اللفظ عنها في بعض الأحيان ( عادة لاعتبارات منطقية أو عقلانية) إلى معان أخرى ثانوية أو مجازية أو غير حقيقية. بل معنى اللفظ لا يفهم إلا في سياق معين وفي ضوء الأعراف اللغوية التي يشترك فيها أهل لغة من اللغات. فلو اتفق أن كملة "يد" مثلا تأتي في أغلب الأحيان في سياق الكلام للدلالة على اليد الجارحة فلا يعني ذلك أن معنى اليد الجارحة هو المعنى الحرفي الحقيقي الراجح والمعاني الأخرى كالعون أو المساعدة هي معان مجازية ثانوية مرجوحة.
إن صرف معاني النصوص من شأنه أن ينطوي على انحراف عن المعنى الظاهر الذي حُدِّد - وفق السياق، والأعراف اللغوية، والنصوص ذات الصلة – لأجل بعض المعاني الأخرى التي لا يمكن الدفاع عنها بناءا على تلك الأسس. ومن المفترض أن ذلك يحدث لاعتراضات عقلانية " مزعومة" على المعنى الظاهر. مثل هذا الصرف للمعنى يمكن، في الواقع، أن يُصار إليه فقط بناءا على دليل شرعي، والذي يُفترض أن ابن تيمية يعني به نصوص الوحي الأخرى التي توضح وتقيد معنى النص الذي ينبغي صرف معناه.
وينغي الإشارة ههنا إلى مفهوم " التبادر" وهو ما يتبار إلى الذهن من معنى. فعلى سبيل المثال كلمة " عين" فهي وإن كانت تستخدم للدلالة على معان كثيرة منها عين الحيوان والإنسان وغير ذلك، فهذه الكلمة مجردة عن السياق أول ما يتبادر منها إلى الذهن هو عين الآدمي. لكن هذا التبادر لا يجعل منها المعني الحقيقي للكلمة أو أن العرب وضعت هذا اللفظ في الأصل للدلالة على العين الجارحة (فهذا لا دليل عليه) وما سواه معان مجازية لأن تبادر عين الآدمي للذهن سببه هو كثر استعمال اللفظ في ذلك المعنى. أما في سياق الكلام - وهو ما يحدد مع عوامل أخرى المقصود باللفظ - فما يتبارد للذهن هو ما يحدده السياق (وهو عينه مراد المتكلم) وليس ما يتبادر للذهن من اللفظ المجرد.
فتبارد معنى معين من اللفظ المجرد سببه كثرة استعمال اللفظ في معنى معين وليس معناه أنه المعنى الحقيقي وما سواه مجازي ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك لفظ "الصلاة"، فقبل نزول القرآن كان الاستعمال الشائع لهذه الكلمة هو بمعنى الدعاء، غير أن ما يتبادر إلى الذهن في عصرنا هذا من هذه الكلمة مجردة هو الصلاة المفروضة التي هي أحد أركان الإسلام، واستعمالها في معنى الدعاء يكاد يكون مهملا. ولذا فالعبرة بالاستعمال وليس أن أمة من الأمم كالعرب وضعت ألفاظا للدلالة على معان بعينها تعد هي المعاني الحقيقية وما سواها مجازي. ولذلك تجد في اللغات الأخرى كالإنجليزية إذا طالعت المعاجم الخاصة بها معان مهملة obsolete فيما يخص بعض الألفاظ أي كانت الألفاظ تستعمل فيها فيما مضى ولم يعد الأمر كذلك.
إن نظرية المعنى عند ابن تيمية كونه معتمدا كليًا على - ولا ينفصل عن - السياق، جنبًا إلى جنب مع مفهوم التبادر وثيق الصلة، تقف في تناقض ملحوظ مع وجهة نظر الأصوليين السائدة ، التي ترى أن التعبير يكون حقيقيا إذا كان يدل (على معنى معين) بشكل مستقل عن السياق (إن دل بلا قرينة) و مجازيا إن لم يدل على ذلك المعنى في غياب السياق أو القرينة.
بالنسبة لابن تيمية، هذا التمييز لا معنى له لأنه لا يوجد مثال واقعي على الاستخدام اللغوي في غياب السياق. فالاستخدام الواقعي للألفاظ والتعبيرات يكون دائما في سياق معين (سياق كلام أو حديث معين وفي ظل ملابسات معينة وبالنظر لعادة المتكلم في الخطاب) وهذا السياق هو الذي يملي المعنى المقصود. وهذا لا ينفي حقيقة - كما يشرح ابن تيمية في كتاب الإيمان - أن "التعبيرات أو الألفاظ المجردة من السياق " يمكن بالفعل العثور عليها في المعاجم، ولكن هذا لأن هذه التعبيرات والألفاظ تصورها واضعي المعاجم على أنها تدل على طيف أو جملة من المعاني من قبل الناطقين بتلك اللغة استعلموا الألفاظ في الدلالة عليها.
فالنظرية التقليدية في أصول الفقه تعطي للنصوص معنى ظاهرا قد يتفق وقد يختلف مع مراد المتكلم بهذه النصوص (والذي يحدد بناءا على السياق). أما بالنسبة لابن تيمية فالنصوص والتعبيرات والألفاظ كأشياء مجردة لا تدل بذاتها على معنى بمعزل عن مراد وغرض المتكلم الواعي(الذي يُفهم من السياق). وهذا الموقف ينسجم مع الرؤية الشاملة لابن تيمية والتي تميز بين التقدير الذهني وبين حقائق الواقع الموضوعي في الخارج عن الأذهان. فلأن النصوص لم تكتب نفسها فلا يمكن أن يقال أنها تنطوى على معان مجردة عن مراد وغرض المتكلم في إطار عملية تواصل بين متكلم له مراد وغرض من خطابه وبين مستقبل واع لهذا الخطاب.
ونصوص القرآن والسنة كأي وسيلة أخرى للتواصل بلغة بشرية، تنقل بالضرورة ما تتضمنه من معان من خلال الألفاظ، التي يتم تحديد معانيها ، في كل حالة، بالنظر للقرائن وسياق الكلام وفي ضوء العرف اللغوي المشترك لدى المستمعين المستهدفين بذلك الخطاب، أي النبي وأصحابه.
وباعتبار نظرية المعنى عند ابن تيمية والدور الجوهري الذي يلعبه السياق فوضوح نصوص الوحي لدى ابن تيمية يعتمد على مبدأ إضافي ألا وهو أن نصوص الوحي عندما تؤخذ في مجموعها بعين الاعتبار فإنها تنطوى على دلائل تشير إلى المعني المقصود من العبارات المبهمة أو التي تحتمل أكثر من معنى في مواضع منها (والذي يطلق عليه المؤلف intertextuality principle ويترجم إلى مبدأ التناصّ أو التعالق النصي).
وأفضل سبيل لإيضاح نظرية المعنى عند ابن تيمية هو بضرب أمثلة قام من خلالها ابن تيمية بصرف النصوص عن معانيها الحرفية مع التمسك بمادئه اللغوية ودون اللجوء لاعتبارات منطقية أو عقلانية محضة. ومن ذلك الحديث الذى يروى عن ابن عباس وفيه: الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن قبله أو صافحه فكأنما صافح الله. وهذا الحديث يروى بإسناد لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم والصواب أنه من قول ابن عباس. قال ابن تيمية: وَمَنْ تَدَبَّرَ اللَّفْظَ الْمَنْقُولَ : تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِيهِ إلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ: (يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ) ، فَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ : (فِي الْأَرْضِ) ، وَلَمْ يُطْلِقْ فَيَقُولَ : (يَمِينُ اللَّهِ). وَحُكْمُ اللَّفْظِ الْمُقَيَّدِ يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ. ثُمَّ قَالَ: (فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ) ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَبَّهَ غَيْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ ؛ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُصَافِحَ لَمْ يُصَافِحْ يَمِينَ اللَّهِ أَصْلًا ، وَلَكِنْ شُبِّهَ بِمَنْ يُصَافِحُ اللَّهَ !!
فَأَوَّلُ الْحَدِيثِ وَآخِرُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ، وَلَكِنْ يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ لِلنَّاسِ بَيْتًا يَطُوفُونَ بِهِ ؛ جَعَلَ لَهُمْ مَا يَسْتَلِمُونَهُ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَقْبِيلِ يَدِ الْعُظَمَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِلْمُقَبِّلِ ، وَتَكْرِيمٌ لَهُ ، كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ .اهـ
ومن ذلك أيضا تأويل قوله تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله. فقد فسرها الإمام أحمد بن حنبل - كما أشار ابن تيمية - في كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية" بأن المقصود منها أنه إله من في السماء وإله من في الأرض، لأنه بالنظر لمجموع النصوص والتي تدل بما لا يدع مجالا للشك على أن الله مستو على عرشه فوق سبع سماوات وأنه بائن من خلقه، فليس المقصود من الآية أن الله بذاته في كل مكان بما في ذلك الأماكن المستقذرة كمواضع قضاء الحاجة!، تعالى الله عن ذلك.
التأويل بناءا على أقوال السلف
بالإضافة إلى السياق المباشر ومبدأ النظر لمجموع النصوص (والذي قد يشار إليها بمبدأ التناص أو التعالق النصي) ، يقر ابن تيمية عاملا آخر في تحديد معاني نصوص الوحي ، وهو الأقوال المنقولة عن الصحابة و السلف ، خاصة عندما تتضافر هذه الأقوال لتشكل إجماعا أو ما يشبه الإجماع في فهم أو تفسير نص من النصوص حتى وإن تضمن صرف النص عن معناه الظاهر. فعلى سبيل المثال قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. فقد أشار ابن تيمية إلى الإجماع الذي نقله أبو عمر الطلمنكي في كتابه "الوصول إلى معرفة الأصول" عن أهل السنة أن هذه الآية ونحوها من آيات القرآن لا تشير إلى ذات الله بل إلى علمه. أي أنه معكم بعلمه إينما كنتم لكن هو بذاته مستو على عرشه فوق سبع سموات بائن من خلقه. وكذلك في تفسير قوله تعالى" ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" فقد أشار إلى الإجماع الذي نقله ابن عبد البر عن علماء الصحابة والتابعين على أن معنى الآية أن الله علمه في كل مكان وهو بذاته فوق العرش فوق سبع سماوات وأنه لم يعارضهم في ذلك أحد يُعبأ برأيه. لكن كيف توصل السلف إلى تلك المعاني؟ يمكننا القول أنه وفق ابن تيمية فقد توصولوا إليها بإعمال المبادئ التي ترتكز عليها نظرية المعنى عند ابن تيمية وإن لم يصرحوا بذلك. فضلا عن ذلك من الممكن أن ذلك أيضا كان من خلال السماع المباشر من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده.
العرف اللغوي
وفق نظرية المعنى عند ابن تيمية فإن فهم المقصود من نصوص اللغة لابد أن يكون في إطار الأعراف اللغوية للجماعة البشرية المخاطبة بذلك النص. فنصوص الوحي وإن كانت من الله إلا أنها صيغت في قالب لغوى يخص الجماعة المخاطبة بهذا الوحي وبالتالي يراعي الأعراف اللغوية لديهم. فعلى سبيل المثال في تفسير قوله تعالى: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله. يقول ابن تيمية: فَهَذَا اللَّفْظُ أَصْلُهُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ يُوقِدُونَ نَارًا يَجْتَمِعُ إلَيْهَا أَعْوَانُهُمْ وَيَنْصُرُونَ وَلِيَّهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَلَا تَتِمُّ مُحَارَبَتُهُمْ إلَّا بِهَا فَإِذَا طفئت لَمْ يَجْتَمِعْ أَمْرُهُمْ ثُمَّ صَارَ هَذَا، كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْأَمْثَالُ، فِي كُلِّ مُحَارِبٍ بَطَلَ كَيْدُهُ كَمَا يُقَالُ: يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ وَمَعْنَاهُ أَنْتَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِك ... وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَانَ لَهَا مَعْنًى خَاصٌّ نُقِلَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى مَعْنًى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَصَارَ يُفْهَمُ مِنْهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا خُصُوصُ مَعْنَاهَا الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي نَقَلَهَا أَهْلُ الْعُرْفِ إلَى أَعَمَّ مِنْ مَعْنَاهَا. اهـ
والمقصود أن قوله تعالى "كلما أوقدوا نارا للحرب" لا يعني بالضرورة أنهم يوقدون النار في الواقع ليجتمع إليها أحد ولكن صار يعبر بذلك وفق العرف اللغوي عن الدعوة إلى الحرب أو التحريض عليها.في المقابل لم يثبت أن العرب قبل وفي وقت نزول الوحي كانت تعبر بلفظ "الاستواء على العرش" عن الاستيلاء أو السيطرة أو إحكام القبضة ( كما نستعمل نحن في يومنا هذا تعبير إحكام القبضة في الدلالة على السيطرة) لأن الملوك في زمانههم كانوا لا يزالون يجلسون على عروش ولذا فلم يوظفوا هذا التعبير أو اللفظ في الدلالة على غير ظاهره. ومن هنا تنبع أهمية أقوال السلف في فهم نصوص الوحي لأنهم أعلم بالأعراف اللغوية السائدة في زمن نزول الوحي.
وكذلك في قوله تعالى: واشتعل الرأس شيبا. قال أن العرب لم تستعمل لفظ "اشتعال الرأس" إلا في معنى انتشار البياض في سواد شعر الرأس لكنهم شبهوه بانتشار النار في الحطب ونحوه فلا يفهم من ذلك انتشار النار في شعر الرأس ولا في الحطب لأنه قيد الاشتعال بالرأس الذي أصابه الشيب، وقال أما تسميته استعاره فمعلوم أنهم لم يستعيروا لفظ الاشتعال بعينه بل ركبوا منه مع الرأس تركيبا لم يستعملوه إلا في المعنى المذكور فلا يفهم منه اشتعال الحطب ونحوه ولا انتشار النار في شعر الرأس أصلا. والمقصود أن العرب قد تنقل استعمال اللفظ المفرد والمركب إلى معان جديدة ويفهم الاستعمال الجديد إما بقرينة نصية أو بدلالة العرف اللغوي السائد في زمن ما. لكن لا يجوز اسقاط هذا الاستعمال على حقبة سابقة لم يكن هذا الاستعمال فيها ساريا.
الاصطلاح أو العرف الشرعي
أشار ابن تيمية إلى أن بعض الألفاظ الواردة بنصوص الوحي تحمل معان لم يتعارف عليها من قبل أهل اللغة المخاطبين بهذا الوحي بل هي معان جديدة أحدثها الوحي ووضع تلك الألفاظ للدلالة عليها ومن هذا القبيل ألفاظ كالصلاة والزكاة (بل والإسلام). فالصلاة في عرف أهل العربية قبل نزول الوحي كما تقدم كانت تعنى الدعاء ومن ذلك قوله تعالى: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءا وتصدية. لكن صار لفظ الصلاة يطلق على عبادة لها صفة مخصوصة والتي هي أحد أركان الإسلام. لكن هذا الاستعمال الاصطلاحي الشرعي لا يُتوصل إليه إلا من خلال النصوص نفسها وليس بإعمال التأمل الفسلفي على طريقة المتكلمين. فألفاظ الوحي تفهم في سياق العرف الشرعي ثم عرف أهل اللغة. لكن ما يجدر الإشارة إليه أن تلك المعاني الاصطلاحية ليست منبتة الصلة تماما بمعانى تلك الألفاظ في عرف أهل اللغة. فالصلاة بمعناها الاصطلاحي وثيقة الصلة بمعناها في عرف أهل اللغة في زمن نزول الوحي فكلاهما يتضمن الدعاء والمناجاة. وكذلك الإسلام بمعناه الاصطلاحي أي الدين الذى أنزله الله على نبيه محمد وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو وثيق الصلة بالمعنى في عرف أهل اللغة وهو الخضوع والاستسلام.
----------
المصارد:
Ibn Taymiyya on Reason and Revelation: A Study of Darʾ taʿāruḍ al-ʿaql wa-l-naql
Rahman Mustafa, A. (2018), Ibn Taymiyyah & Wittgenstein on Language. Muslim World, 108: 465-491
Smith, K. Evolution of a single gene linked to language. Nature (2009). https://doi.org/10.1038/news.2009.1079
تعليقات
إرسال تعليق