الجمع بين عدل الله وقدره


 

قبل الشروع في بيان عدم التعارض بين حرية الإرادة والقدر، وكذلك أنه لا منافاة بين عدل الله وقدره  ومعاقبة المذنبين على أفعالهم  ينبغي لنا أن نستعرض على نحو موجز المذاهب المختلفة في تلك القضايا وبيان الصائب منها.

حرية الإرادة

انقسم الفلاسفة و المفكرون بشأن حرية الإرادة إلى طرفي نقيض ووسط بينهما. أما طرفا النقيض فهما الحتمية الصلبة   Hard Determinism أو الجبرية من جهة، و التي تنفي مسئولية الشخص الأخلاقية عن أفعاله، و الإرادة الحرة بمعنى نفي القدر أو مايسمى   بالليبرتالية  Libertarianism  أو  بالقدرية من جهة أخرى. أما الموقف الوسط هو ما يعرف بالحتمية اللينة أو التوافقية Compatibilism or soft determinism والذي لا يرى تعارضا بين حرية الإرادة من جهة ومن ثم مسئولية الإنسان عن أفعاله التي تصدر عن إرادة منه وبين الحتمية بمعنى أن الأفعال الصادرة عن إرادة الإنسان لها أسباب سابقة عليها تحتمها.

والحتمية تنقسم إلى قسمين: داخلية بمعنى أن الأسباب المتحكمة في سلوك الإنسان داخلية متعلقة بالعوامل البيولوجية كالبنية العصبية و الهرمونات و العوامل النفسية  كالمعتقدات و كالرغبات  و المشاعر و السمات الشخصية، وخارجية أي متعلقة بعوامل بيئية ظرفية. أما حرية الإرادة بمعنى الليبرتالية أو القدرية فتنفي أن يكون هناك أسباب للإرادة سابقة عليها أي أنها بمنأى عن تأثير الأحداث الماضية.
ومما يتفرع عن القول بحرية الإرادة بمفهوم القدرية أنه لا يمكن التنبوء بسلوك الآدميين وأن الله لا يعلم مسبقا ما سيصدر عن العباد وهو ما يسمى بعقيدة البداء  أي سبق الجهل وحدوث العلم تبعاً لحدوث المستجدات. وهذا التصور قيل أنه في حقيقته يجعل من الشخص مجرد مولد للاختيارات العشوائية لأن الحدث، كالفعل الإرادي، الذي لا سبب له سابق عليه يعني أنه حدث عشوائي عشوائية وجودية كما سيأتي بيانه.
في حين أن القول بالحتمية الصلبة  أو الجبرية، وأن ما يصدر عن الإنسان  يحدده جملة من الأسباب الخارجية  أو الداخلية – وفق التعريف السابق – وأن السلوك الآدمي نتيجة مؤثرات خارجية وداخلية، يتفرع عنه القول بأن الإنسان ليس لديه أدنى مسئولية عن أفعاله والإرادة ما هي إلا وهم.


أما الموقف الوسط بين طرفي النقيض وهو الحتمية اللينة أن الإنسان لديه إرادة حرة إلا أنه يتأثر بعوامل داخلية وخارجية. هذه العوامل لا تحدد سلوك الآدمي لكنها تؤثر فيه و تجعل سلوكيات معينة أكثر احتمالا أو أقل احتمالا في الوقوع. وهذا التوجه هو ما يراه عامة علماء النفس باستثناء السلوكيين منهم ممن يقولون بالحتمية الصلبة.  وتعريف الإرادة الحرة عند أصحاب مذهب التوافقية أو الحتمية اللينة يشترط فيه أن تكون الإرادة صادرة عن ذات الإنسان نفسه وليس عوامل خارجة عنه. فهذا معنى أن يكون مختارا عندهم فالإنسان يميز بداهة بين ما يصدر عنه باختياره وبين ما يفرض عليه أو يفعله قهرا واضطرارا.

أما عند أصحاب مذهب اللاتوافقية أو الإرادة الحرة بمفهوم القدرية هو أن يكون من الممكن للإنسان أن يتصرف على نحو غير الذي تصرف وفقا له في الواقع.
ويرى ستيفين هوكنج أن دماغ الآدمي تخضع لقوانين ميكانيكا الكم و بالتالى هناك عشوائية وجودية 
Ontological randomness  ( وليست معرفية) فيما يتعلق بسلوك الآدمي وأنه لا يمكن التنبؤ بسلوك الآدمي إلا في صيغة احتمالات – وهذا يصب في اتجاه القائلين بالإرادة الحرة بمفهوم القدرية نفاة القدر - إلا أن يتم التوصل إلى النظرية الموحدة التي تحتم كل شيء وحينئذ ستكون العشوائية في سلوك الآدميين معرفية epistemological randomness أي بسبب عدم إلمامنا بكل العوامل المؤثرة في السلوك.
لكن يجاب على ذلك بأن الجسيمات التي تتألف منها المادة حتى وإن كان لا يمكن التنبؤ بسلوكها إلا بصيغة الاحتمالات فكون بعض الاحتمالات أرجح يناقض الزعم بأنه لا توجد أسباب تؤثر في ذلك السلوك لأنه لو كان كذلك لكانت كل الاحتمالات واردة بنفس الدرجة إذ لا سبب يرجح بعض الاحتمالات ويجعلها واردة بدرجة أكبر.

غير أن تصور  اللجوء للعلم التجريبي للإجابة على إشكالية الإرادة هل هي حرة أم لا هو تصور غير دقيق لسببين أولهما أن العلم التجريبي لم يحسم قضية هل الطبيعة بها قدر من اللايقين متأصل فيها ومن ثم فنظرية الكم هي نهاية الفيزياء أم هذا القدر من اللايقين سببه قصور في معرفتنا لا أكثر. ثانيها أن طائفة من العلماء و الفلاسفة  وهؤلاء يمثلون اتجاه الذرائعية instrumentalism لا يرون في العلم التجريبي أصلا وسيلة للبت في شأن حقيقة الواقع كما هو في نفس الأمر بل مجرد أداة للتنبوء بسلوك الطبيعة وظواهرها وما تفرع عن ذلك من تطبيقات عملية وإن كانت تلك النماذج التي نسميها نظريات علمية لا تعبر بالضرورة على واقع الأمر.

وإن كانت هناك آيات قد يشى ظاهرها بأن القرآن يقول بالحتمية الصلبة بل حتى بنقيض ذلك أي القول بالبداء فحقيقة موقف القرآن هو القول بالتوافقية بمعنى الجمع بين القدر و المسئولية الأخلاقية للبشر عن أفعالهم.
فمن الصنف الأول قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا. والمعنى أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة . رواه ابن جريج عن ابن عباس ، وقاله سعيد بن جبير أيضا.
و الإرادة و الأمر و القضاء ونحو ذلك قسمان كوني و شرعي فالكوني هو واقع الأمر و الشرعي هو ما يحبه و يرضاه وإن كان مخالفا لما أراده أو أمر به أو قضاه كونيا. إلا أن مقصود الأمر في الآية هو الأمر الشرعي كما تقدم. أما الإرادة في الآية هي الإرادة الكونية و ليس الشرعية لأن الله لا يرضى الكفر و لا الفسوق و لا العصيان لعباده كما في قوله: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ. فلأن الله يعلم قبل أن يأمرهم بالطاعات أنهم سيعصون وبالتالي سيستحقون العقوبة فقد أراد أن يهلكم وإلا لما أمرهم بالطاعة كي لا يقعوا تحت طائلة العقاب عند عصيانهم الأمر.
ومن الصنف الثاني قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.
قال ابن كثير: قول ابن عباس وغيره في مثل : ( إلا لنعلم ) [ البقرة : 143 ] : إلا لنرى ; وذلك أن الرؤية إنما تتعلق بالموجود ، والعلم أعم من الرؤية ، فإنه [ يتعلق ] بالمعدوم والموجود.
والمقصود أن يصبح أمرا واقعا وليس غيبا مطويا في علم الله. لأن هذا هو المسوغ لمعاقبة الكاذبين ومكافأة الصادقين.
و القرآن أثبت للعبد مشيئة فقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ. وقال: لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين. و ذلك لأن هذه المشيئة الحادثة في العبد هي مخلوقة لله ولو شاء الله لم يخلق فيه تلك المشيئة. كما في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.
ومذهب السلف في حرية الإرادة مذهب براجماتي – كما ذهب ويليام جيمس على سبيل المثال من الفلاسفة من غير المسلمين - لا يبحث في كيفية الجمع بين القدر و حرية الإرادة أو كيفية الإردة الحرة بل يثبتون القدر و حرية الإرادة بما يترتب على ذلك من مسئولية أخلاقية للإنسان عن أفعاله لأن إثبات القدر و المسئولية الأخلاقية معا تقتضيه المصلحة الدينية و الدنيوية. وكما أن الناس اتفقوا في مجموعهم على إثبات المسئولية الأخلاقية للآدميين عن أفعالهم التي تصدر عن إرادتهم دون إكراه لاعتبارات عملية وما يترتب على ذلك من مبدأ الثواب و العقاب لتحفيز السلوكيات الإيجابية و تثبيط السلوكيات السلبية واعتبار أن ذلك لا ينافي العدل فكذلك محاسبة الناس على أفعالهم في الآخرة لا يتنافى مع العدل لأن الهدف من الثواب و العقاب الأخروي هو عينه الهدف من الثواب و العقاب الدنيوي.

مشكلة الشر

تعددت الأجوبة على مشكلة الشر عند علماء الإسلام  سواءا  من لا يقول  بالتحسين و التقبيح العقلي  كالأشاعرة  أو  من يقول به مع كونه يرى للأفعال حسنا وقبحا ذاتيين بغض النظر عن السياق الذي تحدث فيه أو ما يعرف بمذهب الأخلاق الواجبة Deontological ethics كالمعتزلة والشيعة الإمامية فضلا عن بعض الفلاسفة من غير المسلمين. أو من يحكم بقبح الفعل وحسنه بناءا على مآلاته أو عواقبه أو ما يعرف بالعواقبية   consequentialism،  كشيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا المذهب هو قول كثير من علماء المسلمين ممن يقولون بالتحسين والتقبيح العقلي كالإمام أبي حنيفة وأصحابه.  يقول ابن تيمية رحمه الله في "الرد على المنطقيين" :
واكثر الطوائف على إثبات الحسن والقبح العقليين لكن لا يثبتونه كما يثبته نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم بل القائلون بالتحسين والتقبيح من أهل السنة والجماعة من السلف والخلف كمن يقول به من الطوائف الأربعة وغيرهم يثبتون القدر والصفات ونحوهما مما يخالف فيه المعتزلة أهل السنة ويقولون مع هذا بإثبات الحسن والقبح العقليين وهذا قول الحنفية ونقلوه أيضا عن أبي حنيفة نفسه وهو قول كثير من المالكية والشافعية والحنبلية كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وغيرهما من أئمة أصحاب أحمد كأبي علي بن أبي هريرة و أبي بكر القفال الشاشي وغيرهما من الشافعية وكذلك من أصحاب مالك وكذلك أهل الحديث كأبي نضر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما. اهـ

ويقول به طائفة من الفلاسفة من غير المسلمين مثل جون ديوي وجون ستيورات مل في العصر الحديث.
أما الأشاعرة ونحوهم ممن يرى أن إرادة الله وأمره ونهيه هو ما يحدد الحسن و القبيح وأنه ليس للأفعال حسن وقبح ذاتي بمعزل عن أمر الله ونهيه أو ما يعرف بالإرادية 
voluntarism  فعند هؤلاء لا معنى أصلا لمشكلة الشر لأن ما يفعله الله ويأمر به هو الحسن وهو الخير ولا دور للعقل في تحديد ما هو حسن وما هو قبيح.
وأما المعتزلة ومن حذا حذوهم فيقولون أن الله خلق العباد إلا أنه لا يخلق أفعالهم ووجود الشر في العالم نتيجة حتمية لحرية الإرادة. وهذا القول هو قول باطل يخالف قول السلف و الخلف من أهل السنة من أهل الحديث والأشاعرة  والماتريدية. وقد صنف الإمام البخاري كتابا سماه "خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل" جمع فيه الأحاديث، والآثار التي تدّل على أنّ أفعال العباد مخلوقة، والتي تثبت أنّ القرآن كلام الله ليس بمخلوق.

أما ماذهب إليه ابن تيمية وينسب إلى السلف، وهو الصواب في نفس الأمر، من أن الأفعال ليس لها قبح أو حسن ذاتي بمنأى عن العاقبة و السياق فما هو حسن في سياق أو ظرف ما قد لا يكون كذلك في سياق آخر و العكس صحيح.
وهم يفرقون بين خلق الشر وفعله كما أن هناك فرق بين خلق سائر الأفعال و فعلها. فالعبد عندما يرتكب معصية ففعل المعصية هو مخلوق لله. فالله عندما يخلق فعل أو صفة  في محل ما فهو فعل أو صفة لذلك المحل وإليه ينسب مثل خلق فعل الحركة في الآدمي فالمتحرك هو الآدمي وليس الله أو خلق عرض الجوع أو الظمأ في الآدمي فمن يجوع ويظمأ هو الآدمي.
وعندما يقوم أحد باقتراف معصية من المعاصي فالله هو من خلق الفعل وليس هو من اقترفه ولا ينسب إليه. ولابد أن يفرق بين الإرادة الكونية و الشرعية. فما يريده الله إرادة كونية ليس بالضرورة يحبه و يرضاه
لكن إرادته للشىء إرادة كونية ولو على خلاف ما يحبه ويرضاه يكون لحكمة.  ونفس إرادته لهذا الشىء الذي لا يحبه ولا يرضاه ليست شرا بل خير، بمعنى أن منفعة إرادته لهذا الشىء راجحة على المفسدة المقترنة بإرادة ذلك الشىء. ولذلك فالله لا يصدر عنه فعل يوصف بأنه شر بل كل أفعاله خير حتى خلقه للشر في محصلته هو خير كما سيأتي بيانه.
والمثال التقليدي الذي يضرب للدلالة على ذلك هو بعض صور العلاج التي لولا ما يرجى منها من الشفاء لكانت شرا لو فعلت، كعلاج الجروح بالكي أو بتر الأطراف المصابة بالغرغرينا لحماية سائر البدن.

كيفية الجمع بين عدل الله وخلقه للمعصية في العصاة ومعاقبتهم عليها

إذا نظرنا للمسألة من الناحية البراجماتية  فإن خلق الشرور يلزم منه أن يُجعل لها رادع. فلا أحد يقول أن وضع عقوبات رادعة  للمجرمين  هو ظلم حتى وإن كانت أفعاله  ناجمة عن إرادته التي هي بدورها تحتمها مؤثرات سابقة على تلك الإرادة.
فهذه المؤثرات ترجع  ضمن مصادر أخرى عديدة لتأثير المجتمع  الذي وجد فيه المجرم حتى وإن كان المجتمع نفسه  ناجما عن مؤثرات أخرى سابقة. فهل من غير العدل  أن يشرع المجتمع عقوبات للجرائم؟
فهنا المجتمع نفسه هو الذي أفرز  بشكل جزئي ظاهرة الإجرام وهو من يشرع العقوبات لردع تلك الظاهرة.
والمجتمع لا يفرز الإجرام بمعزل عن حالة الاجتماع، بل ظاهرة الإجرام نتيجة للحالة التي نسميها مجتمعا ولو بشكل جزئي. بمعنى لا يكون المجتمع إلا مقترنا به ظاهرة الإجرام. وكذلك فإن الله لا يخلق الأشرار بمعزل عن الأخيار ولا الشر مجردا. ولكن هذا لا يسوغ ألا نجتمع. أما أن يكون هناك بشر ولا يكون في اجتماعهم شر فهذا ممتنع. قد يكون ذلك في مجتمع ملائكي أما المجتمع البشري فلا.
فهذا يتفرع عن طبيعة البشر. فالله خلق البشر لهم سمات معينة ، لكن البشر ليسوا شرا محضا في ظل حالة الاجتماع. فالعبرة بكون حالة الاجتماع هل هي خير أم شر في مجملها؟ فلا يوجد في الواقع إجرام بلا تفاعل، وكذلك لا يمكن أن يخلق الله بشرا  في خضم هذا العالم بالمؤثرات الفاعلة فيه وفيهم تلك الخصائص ولا ينشأ عن اجتماعهم شر.

فإما ألا يخلقهم بشرا أو لا يخلقهم أصلا. ومادام خلق البشر خيره أعظم من شره فهو عدل. والشرور ناجمة عن تفاعل البشر بتلك السمات التي تميزهم كبشر فيما بينهم. فإن قيل لماذا لم يكتفي بالملائكة مثلا  وقد سأل الملائكة أنفسهم هذا السؤال كما في قوله تعالى: "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون"، يقال ما هو الظلم في خلق ما يغلب خيره على شره ومن أين جِئ بأن الفعل  الذي يغلب نفعه على ضرره لابد أن يكون ضروريا  كي يكون عدلا؟
وهنا يجدر بي أن أضرب  مثالا للإيضاح. إذا أقدمت على فعل ما خيره أعظم من شره هل يلزم أن يكون إقدامك عليه لضرورة؟ فمثلا تناول المشروبات الغازية ونحوها من المشروبات التي تحتوي على السكر المكرر سواءا شربتها بنفسك أو أعطيتها لأهلك أو ولدك. دعنا نفترض أن نفعها أكبر من ضررها وهذا عند الاعتدال في شربها (وهي قطعا لها أضرار كما يقول الأطباء والمنظمات الصحية المعنية). فهل شرب تلك المشروبات ظلم لنفسك في هذه الحالة لمجرد أنها ليست ضرورية؟ في الواقع هذا تقريبا ينطبق على كل شيء تتعاطاه  لكنك يجب أن تختار ما تربوه منفعته بالنسبة لك وليس شيء فيها على حدة ضروريا.


 إذا ليس ظلما شرب المشروبات الغازية لو رجح نفعها على إثمها. ولذا لما حرم الله الخمر والميسر قال وإثمهما أكبر من نفعهما. وإذا كان خلق الشر متلبسا بالخير الأعظم ليس ظلما، وهذا ما تشير إليه الآيات التي أعقبت ذكر سؤال الملائكة،  فهل من العدل تركه بلا رادع؟. دعونا نضع القضية في إطارها الأوسع. إرادة الإنسان تؤثر فيها مؤثرات عديدة تتبادل التأثير فيما بينها على نحو معقد جدا وتتسلسل في الماضي ربما إلى نشأة الكون نفسه ولا تتوقف عند حد تفاعل الآدميين فيما بينهم.

هذه المؤثرات قد يكون من ضمنها الريح مثلا أو جاذبية الشمس أو القمر أو كوكب من الكواكب أو حتى أمور لا تخطر ببال أحد. فإذا أخذنا الريح كمثال هي في جملتها خير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تسبو الريح تأتي بالرحمة وبالعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا  بالله من شرها". فالرياح كما أن لها أضرار بأن تتحول إلى قوة تدميرية  فالغالب عليها  النفع بل إنها ضرورة للحياة نفسها. وكذلك الحال بالنسبة لسائر  القوى المؤثرة في الطبيعة والكون والتي لها إنعكاسات على إرادة الآدمي وتحتمها في النهاية مجتمعة. هذه المؤثرات والكيانات مجتمعة يغلب نفعها على ضررها ولكن قد ينشأ عن تبادلها التأثير فيما بينها شر أو ضرر، لكن خيرها ونفعها يربو على شرها وضررها.

ولعلنا سمعنا من قبل بفهوم تأثير الفراشة butterfly effect. وهو يعني أن أي اختلاف طفيف في الحالة المبدئية للأنظمة المعقدة يتفرع عنه آثار عميقة على النظام بمرور الوقت. فعلى سبيل المثال الظواهر المناخية فهي  ظواهر شديدة التعقيد تتطور من حالة إلى حالة بفعل مؤثرات عديدة تفوق الحصر والحالة التي تتطور إليها من الحالة المبدئية تعتمد على جملة تلك المؤثرات. وكل مؤثر من تلك المؤثرات قد يكون له تأثير طفيف جدا على الحالة المبدئية ثم ينتهي الأمر إلى آثار عميقة تتفرع عن ذلك التأثير الطفيف على الحالة النهائية.
ويضرب المثل لهذا بفراشة ترفرف بجناحيها في البرازيل قد يؤدي ذلك لحدوث إعصار في تكساس بعد مرور عدة أسابيع. أي أن رفرفة الفراشة بجناحيها  نتيجة لما تحدثه الرفرفة من اختلاف طفيف في ضغط الهواء حولها قد يمتد تأثيره بحيث قد يترجم لاحقا إلى الفرق  بين حدوث الإعصار وعدم حدوثه. وهذا اختلاف كبير جدا بين حالتين يمكن أن يؤول إلي أي منهما حال الطقس.


وإن كان أثر الفراشة  في نفس الأمر كما يذهب لذلك بعض العلماء طفيف جدا بحيث لا يرقى لإحداث فارق عميق في الظواهر المناخية، بمعنى أن المناخ بحاجة إلى أثر أكبر من تأثير الفراشة بحيث يترجم لاحقا إلى تغيرات جذرية في حالة المناخ أو الطقس إلا أن المناخ قد يتطور بطريقة مختلفة بشكل هائل نتيجة لآثار طفيفة في الحالة المبدئية التي يتطور منها ولكن ليس  بضآلة أثر  الفراشة. فربما أثر سحابة واحدة مثلا كما يقول أحد علماء المناخ.

فكذلك العقل البشري ونحوه من النُظُم المعقدة فهو نظام معقد جدا يتطور من حالة لأخرى بفعل مؤثرات. وآحاد تلك المؤثرات قد يكون أثره طفيفا على الحالة المبدئية التي يتطور منها لكن بمرور الوقت وفي انتقاله من حالة لأخرى قد يتعمق هذا الآثر بحيث يترجم مثلا إلى الفرق ما بين قرارات يتخذها الإنسان تختلف فيما بينها  اختلافا جذريا وينعكس ذلك  على مصير الآدمي.

 المجتمعات مثلا تجيز التجمهر والاحتشاد لأسباب عدة كالتظاهر وحضور مباريات كرة القدم ونحو ذلك. غير أن مجرد الاحتشاد قد ييسر ارتكاب  بعض الجرائم  كالسرقة والأعمال التخريبية والتحرش ونحو ذلك (كاقتحام مبني الكابيتول من قبل أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب) بالرغم من أن  بعض من يقدم على ارتكاب تلك الجرائم ربما لم يكن ليقدم عليها لولا وجوده في غمار الحشد. فالاحتشاد من جملة العوامل المؤثرة في ذلك السلوك. وهذا ما يعرف بعقلية الحشد mob mentality في مجال سيكولوجيا الحشود crowd psychology وهو أحد فروع علم النفس الاجتماعي.

واحدى النظريات التي تُعنى بتفسير تلك الظاهرة هي نظرية  "انعدام الفردانية" أو "الإمعية" deindividuation  

وتستند النظرية إلى حد كبير إلى أفكار "جوستاف ليبون"، وتقيم الدلائل على أنه في ظل ملابسات الحشد المعتادة، يمكن لعوامل مثل خفاء الهوية والوحدة الجماعية والتهييج أن توهن الضوابط الذاتية (مثل الشعور بالذنب والعار و سلوك  تقييم الذات) من خلال النأي بالأفراد عن هوياتهم الخاصة وإضعاف اكتراثهم بالتقييم المجتمعي. وهذا الوهن الذي يلم بالضوابط النفسية من شأنه أن يزيد من انفعال الفرد بالمؤثرات في محيطه ويحجِّم القدرة على التفكير بعقلانية، مما قد يحدو بالفرد إلى سلوك عدواني تجاه المجتمع antisocial behaviour.  (نقلا عن ويكيبيديا الإنجليزية).

وعلى الرغم من ذلك فالمجتمع أيضا يعاقب من يُقْدم على تلك الجرائم في غضون التجمهر والاحتشاد بالرغم من أنه عبّد السبيل إلى ذلك من خلال الاحتشاد والتجمهر. وهذا لأن أثر التجمهر والاحتشاد في تهييج السلوك العدواني الذي  قد ينجم في أثناءه هو عرض جانبي ولا يسوغ المنع مطلقا من الاحتشاد الذي قد تكون فيه مصلحة راجحة.

فهكذا من خلال تحليل العوامل التي تشكل إرادة الآدمي سواءا كانت داخلية متعلقة بطبيعة تكوينه أو خارجية كالآثار الناجمة عن عوامل البيئة المحيطة يتضح أنها هي بحد ذاتها أعراض جانبية لمؤثرات أخرى يغلب خيرها على شرها أو ضررها على نفعها. فطبيعة  تكوين الآدمي والتي هي من أهم العوامل المؤثرة في إرادته ناشئة بشكل كبير عن المعلومات الوراثية في جزي الحمض النووي في خلاياه. غير أن تلك المعلومات الوراثية التي تحملها الجينات مشفرة في صورة تتابع لجزيئات كيمائية تسمى "النيوكليوتيدات" والتي يتألف منها جزيء الحمض النووي. وهذا التتابع بحد ذاته تتحكم فيه عوامل عدة ولعل تلك العوامل أيضا لها آثار أكبر بكثير من مجرد أثرها في تتابع النيوكليوتيدات في جزيء الحمض النووي الخاص بذلك الشخص ويكون نفع تلك العوامل يغلب على ضررها المتمثل في أثرها في إضفاء ملامح تكوينية معينة من شأنها أن تجعل الفرد لديه ميل ذاتي للسلوكيات المنحرفة.

ومن ذلك يتضح أن سلوك الفرد وإرادته، بغض النظر عن طبيعة  ذلك السلوك و تلك الإرادة، هو حصيلة جملة من المؤثرات لا ينفرد أحدها بالتأثير في سلوك الفرد ولا يقتصر أثرها عليه، لكن آثارها في إرادة  أو مشيئة الفرد، في جملتها، تحتم وقوع تلك الإرادة أو المشيئة من الفرد. وكذلك فإن تلك المؤثرات في جملتها يربو نفعها على ضررها وخيرها على شرها. ومن هذا يتضح أيضا أن خلق إرادة المعصية في الآدمي ليس خلقا مباشرا ولكنه بتوسط أسباب (أو مؤثرات) هي في جملتها خير لأنه – كما تقدم – يربو نفعها على ضررها أو خيرها على شرها المتمثل في حصول إرادة المعصية في نفس الآدمي وما يتفرع عن ذلك  من سلوكيات.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك