كان الناس أمة واحدة

القرآن و السنة أكد في غير موضع على أن البشر جميعا كانوا أمة واحدة على الإيمان بالله وفق فطرته التي فطرهم عليها ومن ذلك قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. وقوله في الحديث القدسي: وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ . ثم لما طال عليهم العهد اختلفوا و تفرقوا وتشعبوا وهذا قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. أي فاختلفوا فبعث الله النبيين. وذكر أن من أسباب الاختلاف طول العهد أي بمرور الزمن فإن الناس تنحرف عن نهج الأنبياء بتزيين شياطين الإنس و الجن وهذا قوله: وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا.
ولأن هذا يحدث عادة على فترة من الرسل فقد تعجب موسى من عبادة قومه للعجل على قرب العهد فقال: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي.
ثم ذكر أن أصل الانحراف هو إحداث أي شيء في الدين مهما صغر فقال: خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. ثم شدد على رفض أي محاولة لإدخال أي شيء في الدين ليس منه فقال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
ثم نبه إلى أن أس الفساد هو دعاء أحد مع الله والتوجه إليهم في قضاء الحاجات وتفريج الكربات كوسطاء عند الله بقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وقال: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه. منبها على أن هؤلاء : الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ. ثم بين كيف أن هذا يتطور إلى اتخاذ هؤلاء العباد آلهة مع الله فقال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى . أي قالوا ما نعبد هؤلاء الأولياء إلا ليقربونا إلى الله. وهؤلاء الوسطاء تارة يكونون من الصالحين من الناس وتارة من الملائكة وتارة من الكواكب و النجوم.
ودعاء هؤلاء كوسطاء لقضاء الحاجات يتطور بمرور الوقت و طول الأمد إلى غلو أشد وهو اعتبار أن هؤلاء أرباب بيدهم الخلق و التدبير. ومع تفرق الناس إلى أمم و تشعبهم إلى شعوب أخدت كل أمة وكل شعب يطور نسخته الخاصة و يتراكم لديه ركام هائل من الخرفات و الأساطير.
لكن لأن هذه الأمم وتلك الشعوب بالأساس أمة واحدة تجد أنه كان لا يزال لديهم بعض العناصر المشتركة سواء في الأمور الاعتقادية أو المسائل ذات الطبيعة التاريخية. ولا أدل على ذلك من وجود مفهوم الإله الأعلى صاحب الخلق و التدبير و الملائكة و الأرواح و الشياطين والفردوس و الجحيم ونحو ذلك كأمثلة على الأمور الاعتقادية. أو قصة الطوفان وهلاك الجنس البشري إلا قلة مختارة كمثال على الحوادث ذات الطبيعة التاريخية.
فعلى خلاف من يزعمه الزاعمون من أن القرآن نقل أساطير القدماء، فالقرآن ينبه إلى تلك الأمور آنفة الذكر من أن الناس كانوا أمة واحدة ومن ثم لديهم تراث مشترك. لكن القرآن يقوم يتنقيح العقيدة و التاريخ البشري مما لحق بهما من تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
فكون الإله الأعلى لدى الكنعانيين كان يسمى "إيل" و الذي يعني حرفيا "الإله" فهذا لا يختلف عن كون الإله الأعلى لدى العرب هو الله. لكنهم على غرار ما فعل العرب نسبوا له البنين و البنات وجعلوا من هؤلاء آلهة مع الله يشركونهم في العبادة و التدبير. ثم على غرار ما فعلت قبائل العرب من اتخاذ إله باعتباره الحامي فكذلك فعلت الشعوب الكنعانية. فكان لكل شعب منهم إله قومي يكلؤهم ويرعاهم في زعمهم. وقد لفت انتباهي ما ذكره بعضهم من أن مالك خازن النار هو "مولك" إله بني عمون - أحد الشعوب السامية القديمة التي استوطنت شرقي نهر الأردن - المذكورين في العهد القديم و الذي كان يقدم إليه الأطفال كقربان فكانوا يجيزونهم في النار لأجله. وقد عبد بنو إسرائيل ذلك الصنم وقدموا له أولادهم كقربان - كما كان يفعل بنو عمون - في موضع يسمى توفة في وادي بني هنوم حتى دمر الملك "يوشيا" ذلك المكان. ولذا يقال أن جهنم سميت جهنم في التراث اليهودي نسبة لوادي بني هنوم. والمقصود أنه من الوارد فعلا أن "مالك" خازن النار هو "مولك" Molech. فكلمة مولك تعنى في الأصل "ملك" Melech. وربما عبد كما عبد غيره من الملائكة. فجعلوا منه إله العالم السفلي الذي له نظائر كثيرة في الحضارات الأخرى مثل نَرْجَلَ في بلاد الرافدين و "أوزوريس" عند الفراعنة، و هاديس عند الإغريق، وبلوتو عند الرومان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عبء الإثبات

نظرية المعنى عند شيخ الإسلام ابن تيمية ومسألة المجاز

الجمع بين عدل الله وقدره