حقيقة موقف القرآن من الثالوث

حقيقة موقف القرآن من الثالوث
الثالوث ليس عقيدة إنجيلية
أى عقيدة يجب أن تكون مستمدة من النص الذى يشكل المرجعية بالنسبة إليها، وإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس لوجدنا أنه يحوى بين دفتيه نصوصا معانيها واضحة وجلية ونصوصا أخرى  مبهمة حمالة أوجه. وبالتالى عند تبنى أى عقيدة يجب أن تكون مستندة إلى النصوص الواضحة والصريحة ثم تفهم النصوص الملتبسة فى ضوء النصوص الصريحة، لكن تبني الكنيسة لعقيدة الثالوث كان على العكس من ذلك.
فالنصوص الصريحة الواضحة فى العهد الجديد تعارض عقيدة الثالوث بصورة قاطعة، وكل النصوص التى يُستند إليها  فى الدلالة على عقيدة الثالوث هى نصوص غامضة مبهمة، وقد أصاب الواعظ و اللاهوتي " أندروز نورتون" أحد قادة طائفة "المسيحية التوحيدية"   عندما قال : إذا افترضنا صحة عقيدة الثالوث فإن الرسل عبروا عنها " بأسلوب بحيث لو تعمدوا أن يربكوا القارىء ويوقعوه فى الحيرة وأن يجعلوا الأمر يكتنفه الغموض لما فعلوا أفضل من ذلك ! " 
وعلى الجهة الأخرى لو نظرنا إلى النصوص التى تناقض عقيدة الثالوث لوجدناها من الوضوح بصورة تجعلنا نتساءل عن طبيعة وعدد النصوص المطلوب أن يحتويها العهد الجديد لكى تقنع الكنيسة والمسيحيين بأن عقيدة الثالوث باطلة !.
وسوف استعرض طائفة  من هذه النصوص التى تؤكد على أن المسيح هو أدنى منزلة من الله أو الآب مع الأخذ في الاعتبار أن نصوص العهد الجديد لاتميز بين الله و الآب :
 سمِعتمُوني أَقولُ لَكم: أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ. لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب لأَنَّ الآبَ أَعظَمُ مِنِّي. (يوحنا 14 : 28 ) والآب يقابلها في الأصل اليوناني Πατὴρ  Patēr   أي الأب وكذلك الحال في كل النصوص التالية التي ورد فيها لفظ الآب.


فقالَ له يسوع: لِمَ تَدْعوني صالِحاً ؟ لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه ( مرقس 10 : 18 )  فكلمة الله يقابلها في الأصل اليوناني  Theos Θεός   أي الإله وكذلك الحال في كل النصوص التالية التي يرد فيها لفظ الله أو إله.


وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها: لا المَلائكةُ في السَّماء، ولا الِابنُ، إِلاَّ الآب  ( مرقس 13 : 32)
وأَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا. (1كورنثوس 8 : 6) ورب هنا يقابلها  Κύριος Kýrios بمعنى السيد.

ومتى أُخضِعَ لَه كُلُّ شَيء، فحينَئِذٍ يَخضَعُ الاِبْنُ نَفْسُه لِذاكَ الَّذي أَخضَعَ لَه كُلَّ شيَء، لِيكونَ اللّهُ كُلَّ شَيءٍ في كُلِّ شيَء.  (1كورنثوس 15 : 28)
ولكِنِّي أُريدُ أَن تَعلَموا أَنَّ رأسَ كُلِّ رَجُلٍ هو المَسيح ورأسَ المَرأَةِ هو الرَّجُل ورأسَ المَسيحِ هو الله.  (1كورنثوس 11 : 3)
فَإِنَّ اللهَ وَاحِدٌ، وَالْوَسِيطُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الإِنْسَانُ الْمَسِيحُ يَسُوعُ .(1 تيموثاوس  2 : 5 )
وهذه النصوص صريحة الدلالة على كون المسيح أدنى منزلة من الله أو الآب. وأن الإله هو الآب وحده.
ويؤكد الكاردينال الكاثوليكى  جون هنرى نيومان J. H. Newman  على هذه الحقيقة بالقول :  دعونا نسلم أن جملة العقائد والتى موضوعها هو ربنا يسوع  كانت محل اتفاق من قبل الكنيسة الأولى ... إلا أن الوضع بالتأكيد ليس كذلك بالنسبة لعقيدة الثالوث  فأنا لا أرى معنى للقول بأنه كان ثم اتفاق فى الكنيسة الأولى بشأنها . والكتابات المسيحية فى هذا الوقت المبكر لا تذكر شىء عن  هذه العقيدة  وهذه الكتابات وإن كانت تورد ذكرا لثلاثة لكن كون  فى ذلك سر من أسرار الكنيسة أو أن الثلاثة واحد ومتساوون  وأزليون  وغير مخلوقين وكُلِّيِّوا القدرة ولايمكن للعقل إدراكهم   فهو أمر غير منصوص عليه ألبتة  ولا يمكن استخراجه من تلك الكتابات .وإن كنا نؤمن بالطبع أنها تُضمر هذا أو تقصد إلى ذلك .
ويضيف الأب الكاثوليكى  وعالم اللاهوت الشهير هانز كونج Hans Kung :  لماذا لايوجد مطلقا أى  حديث فى طول العهد الجديد وعرضه عن إله مثلث الأقانيم،  ففى حين أنه يوجد إيمان بالله الآب  وبيسوع الإبن وبروح الله فلا يوجد عقيدة تتعلق بإله واحد فى ثلاثة أقانيم  أو ثالوث.  

الحواريون لم يؤمنوا بعقيدة الثالوث
 ويذكر قاموس الكتاب المقدس Hastings' Dictionary of the Bible أنه  : مع الأخذ فى الاعتبار إلى أى حد كان اليهود على وعى بعقيدتهم التوحيدية  فبحسب الدليل المستمد من العهد الجديد   فالمناوءة اليهودية لم توجه تهمة الإيمان بثلاثة آلهة أو الشرك  للمسيحيين الأوائل، وهو نقد شائع وُجِّه فيما بعد من قِبَل اليهود . 
ومما يدل أيضا  على أن عقيدة الحواريين  هى عقيدة اليهود المتنصرين و أنها لم تكن تختلف كثيرا عن اليهود التقليديين، خلا إيمانهم برسالة عيسى عليه السلام ،  أنه لما قامت السلطات الكهنوتية بإعدام القديس يعقوب أحد الحواريين فقد أثار هذا سخط اليهود فى أورشاليم إذ أنه كان يتمتع فى وسطهم بسمعة طيبة لأجل تقواه وزهده  وتمسكه بالشريعة  حيث يذكر المؤرخ اليهودى يوسيفوس فى كتابه XX : 9   Antiquities of the Jews   أن رئيس الكهنة  استغل فرصة خلو منصب الحاكم الرومانى Procurator  بعد وفاة فيستوس Festus وقبل أن يتولى ألبينوس مهام منصبه فجمع " السنهدرين " وحكم على يعقوب بالرجم حتى الموت بتهمة  خرق الناموس وأن صنيع رئيس الكهنة هذا اعتبر من قبل  شريحة واسعة على أنه جريمة قتل وأزعج العقلاء والمنصفين فى المدينة المعروف عنهم الالتزام الصارم بالناموس ( الشريعة ) .  فكيف يعقل لو أنه كان يقول بعقائد فاسدة في نظر اليهود التقليديين  أن يغضب لأجله اليهود؟. وكذلك النبي يحيى عليه السلام  بالرغم من أن فلافيوس يوسيفوس ساق قصته في تاريخه فلم يورد عنه أنه دعا الناس إلى عبادة المسيح ولا أنه قال أن المسيح هو الله أو ابن الله رغم تعاصرهما.  كما ذكر قتله على يد "هيرودوس أنتيباس" لأجل تأثر الناس به حيث كانوا يحتشدون لسماع حديثه، وخوفه من أن يستغل قدرته على التأثير فيهم في أن يشعل ثورة ضده. وذكرت الأناجيل أن من أسباب قتله أنه عاب عليه الزواج من أرملة أخيه التي تسمى "هيروديا"  (متى: 14، مرقس: 6، لوقا: 9) بعد أن طلق ابنة الحارث الرابع ملك الأنباط لأن ذلك بحسب شريعة اليهود لا يجوز (اللاويين 20:21) حيث أنها أنجبت من أخيه. وذكر  يوسيفوس أن اليهود كانوا يعتقدون أن هزيمة هيرودس أنتيباس على يد الحارث الرابع - في الحرب التي ثارت لأجل طلاق ابنته - كانت انتقاما من الله لأجل قتله. 
Jewish Antiqities 18. 5. 2

آباء الكنيسة كانوا من أهل البدع! 
ولا يقتصر الأمر فى اضطراب عقيدة الثالوث على غياب الأدلة القطعية عليها من النصوص الكتابية فضلا عن معارضتها لها أو صمت  المسيح والتلاميذ والرسل عنها بل وقولهم بما يناقضها، بل يمتد الأمر الى آباء الكنيسة ، فمن المتفق عليه بوجه عام أن  آباء الكنيسة المتقدمين على مجمع نيقية  كانوا يقولون بالتفاوت فى المنزلة بين الآب والإبن subordinationists  وهذا ظاهر بوضوح فى كتابات اللاهوتيين الدفاعيين فى القرن الثانى .... ولقد سار إيرينايوس على نفس الدرب  ... ولقد استكمل هيبوليتس وترتيليانوس فى الغرب هذا المشروع  اللاهوتى الذى ابتدأه الدفاعيين وإيرينايوس .
 Kevin Giles, The Trinity & Subordinationism
وهنا يعلق هانز كونج على ذلك بالقول : " إذا ما أردنا أن نحكم على المسيحيين فى الحقبة التى سبقت مجمع نيقية فى ضوء مجمع نيقية فليس فقط اليهود المتنصرون سيدانون بتهمة الهرطقة  بل تقريبا جميع آباء الكنيسة اليونانيين ."
ودلائل هذا التصور تجدها على سبيل المثال لا الحصر فى رسالة أكلمندس الرومانى  الاولى ( 59 : 4 ) ،  وكذلك فى كتابات إغناطيوس Ephesians 3:2  ، Magnesians 13:2 ، Smyrnaeans 8:1   وكذلك يوستينيوس فى " حوار مع تريفو "  Dialogue with Trypho, 56  حيث يقول : ومن ثم أجبت : سأحاول أن أقنعك بما أنك قد فهمت الأسفار المقدسة  بصحة قولي  من أن هناك  - وأنه يقال أن هناك -  إله ورب آخر خاضع للخالق الذى خلق كل شىء، والذى يسمى أيضا ملاكا، لأنه يعلن للبشر كل ما يريد خالق كل شىء، والذى لا إله فوقه، أن يعلنه.
وكذلك فى الكتاب المسمى بالديداخى Didachi  ( 50 – 120 م ) أو تعاليم الرسل  حيث ورد ( فى الفصل 9 ، والترجمة عن نسخة Robert-Donaldson : نشكرك يا أبانا لأجل كرمة خادمك داود المقدسة التى جعلتها معلومة لنا من خلال خادمك يسوع ،  لك المجد إلى الأبد .
ويقول إيرينايوس فى ضد الهراطقة  [II , 28 :6 ] (Against Heresies, 2.28.6 ) فى حين أن  المسيح ، ابن الله ، قرر أن الآب وحده هو الذى يعلم ميقات يوم الحساب  عندما يعلن بوضوح : وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها: لا المَلائكةُ في السَّماء، ولا الِابنُ، إِلاَّ الآب .....
بما  أن  " الآب " ، يقول هو [ أى المسيح ] ،  " أعظم منى "  فقد تقرر إذا من قِبَل المسيح أن الآب  فيما يخص العلم   أعلى منزلة . [ II , 28 : 8 ]

وبحسب  الأسقف ريتشارد هانسون R.P.C. Hanson :  جميع اللاهوتيين  فى واقع الأمر ، باستثناء أثناسيوس ، فى الشرق والغرب كانوا يقبلون بضرب من التفاوت فى المنزلة  ( أى الآب والابن والروح) subordinationism  على الأقل حتى عام 355 م ...  فلم يكن هناك لاهوتى فى الشرق ولا فى الغرب ، قبل اندلاع الجدل الأريوسى  ، لم يكن  يعتبر الابن ،  من وجه من الوجوه ،  أدنى منزلة من الآب .
 R.P.C. Hanson 1988. The Search for the Christian Doctrine of God
وتحت مادة Subordinationism   تقول دائرة معارف أوكسفورد  :
تطلق هذه التسمية على مَيْل ، حاضر بقوة فى  الكتابات اللاهوتية فى القرنين الثانى والثالث الميلادى ،  لاعتبار المسيح ، كإبن لله ، فى مرتبة أدنى من الآب . وتقف خلف هذا الميل عبارات واردة بالعهد الجديد  والتى يؤكد فيها المسيح نفسه على  ذلك  [ يوحنا 14 : 28 { سمعتموني أقول لكم: أنا ذاهب، ثم أرجع إليكم. لو كنتم تحبوني لفرحتم بأني ذاهب إلى الآب لأن الآب أعظم مني }   ، مرقس 10 :  18 { فقالَ له يسوع: ((لِمَ تَدْعوني صالِحاً ؟ لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه }  ، 13 : 32  { وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها: لا المَلائكةُ في السَّماء، ولا الِابنُ، إِلاَّ الآب }   إلخ ].........ويظهر هذا الميل  خاصة فى كتابات لاهوتيين من  أمثال يوستينيوس , ترتيليانوس ، أوريجانوس ونوفاتيانوس بل حتى فى كتابات إيرينايوس Irenaeus   ، والذى  فى تعليقه على  {يوحنا 14 : 28}  لا يجد اى إشكال فى اعتبار المسيح أدنى منزلة من الآب .
 Oxford Encyclopedia of the Early Church
ويقول  البروفيسور   مارتن فرنر Martin Werner  : فى أى موضع من العهد الجديد عندما تكون العلاقة بين المسيح  والآب محل اعتبار ... فإنها  تُصور وتمُثل على انها علاقة بين الأدنى منزلة والأعلى منزلة ....  إن جميع اللاهوتيين العظام قبل مجمع نيقية يمثلون المذهب القائل بأن الإبن فى مرتبة أدنى من الآب .
 Werner, Martin. The Formation of Christian Dogma

تطور عقيدة الثالوث 
ومع غياب الدليل الكتابى على عقيدة الثالوث ومخالفتها لأقوال الرسل وتعارض عقيدة الآباء معها فإننا نخلص إلى أن عقيدة الثالوث قد نشأت تدريجيا عبر القرون ومن خلال الكثير من الجدل وفى البداية يبدو أنه كان ثمة وجهتان للنظر الأولى تقول بأن الأقانيم الثلاثة متمايزة لكن على حساب التساوي فى الجوهر ومن ثم الوحدانية وهو ما يسمى بمذهب المرؤسية   Subordinationism والذى قد يترجم إلى التفاوت فى الرتبة أو المنزلة والأخرى تقول بالتساوي فى الجوهر(الكيفية) لكن على حساب التمايز فتجعل من الأب والابن والروح مظاهر للإله يعلن بها عن نفسه دون كونها متمايزة فى ذاته ويسمى بمذهب الـسابيليانية  Modalism ولم يكن حتى القرن الرابع أن تبلورت عقيدة الثالوث كما نعرفها الآن، فجعلت الأقانيم الثلاثة متساوية فى الجوهر ومتمايزة فيما بينها حتى إذا كان مجمع نقية 325 م نصوا على أن الابن من جوهر الأب مثلما أن هذه الخرقة من ذاك الثوب على سبيل المثال ولم يُذكر كثيرا فى شأن الروح.
وأخذ أثناسيوس بطريرك الإسكندرية يدافع عن صيغة مجمع نقية وينقحها فلما كانت نهايات القرن الرابع أخذت عقيدة الثالوث تحت زعامة كل من باسيليوس القيصرى و غريغوريوس النيصى و غريغوريوس النَزَيَنْزِى الشكل الذى عرفت به منذ ذلك الوقت وحتى الوقت الحاضر .
 "Trinity." Encyclopædia Britannica. Encyclopædia Britannica 2007 Ultimate Reference Suite
ويلخص هذا التدرج  روبرت ويلكن   Robert L. Wilken  بالقول : منذ البداية لقد واجه التقليد إشكالية فى مسألة العلاقة بين الله والمسيح  .. لقد حاول المسيحيون الأوائل أن يقدموا تفسيرا لحياته وأعماله الخارقة للعادة وقيامته ولم يمضى وقت طويل حتى دُعى ابناً لله  ثم إلها  وإن لم يكن إله بالمفهوم الذى يعنيه كون الآب إله – أو تراه  كان كذلك ( أى تساؤل طرح نفسه بعد ذلك ) ؟ هل هو خالق  ؟ هل هو أزلى ؟  هل يجب أن ينُاجى فى الصلاة ...  هذه التساؤلات وغيرها  أشكلت على المفكرين المسيحيين  لمدة 3 قرون تقريبا  .... وعندما احتدم الجدل  فى بداية القرن الرابع حول العلاقة بين المسيح والآب كان معظم المسيحيين يقولون بتفاوت  المنزلة بين الآب وبين المسيح و إن كانوا يعتقدون ألوهيته [ بمعنى أنه أدنى رتبة من الآب ] . 
ويمكننا ان نختم هذا المبحث بما قالته  موسوعة شاف – هيرزوج الحديثة :
" إن عقيدتى " اللوغوس " والثالوث اكتسبتا شكليهما من الآباء اليونانيين  الذين ... كانوا متأثرين بقدر كبير بطريق مباشر أو غير مباشر بفلسفة أفلاطون ... وكون الأخطاء والانحرافات  شقت طريقها للكنيسة من هذا المصدر هو أمر لا يمكن إنكاره".

تعامل القرآن مع عقيدة الثالوث
أورد العلماء قولين في المقصود من الثلاثة في قوله تعالى: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ. الأول وهو الأرجح أن الثلاثة هم الله والمسيح ومريم وكذلك في قوله: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. و الثاني أنه يعني بقوله: ولا تقولوا ثلاثة.  أي الأقانيم الثلاثة كما أورده القرطبي و الزمخشري و البغوي والماوردي والألوسي وغيرهم. والمعنى أي لا تتكلموا في حق الله بلفظ الثلاثة. فبصرف النظر على أي نحو يكيفون الأمر فهو تكييف باطل سواءا قالوا ثلاثة آلهة أو ثلاثة أعيان أو ثلاثة أقانيم أو حتى ثلاث صفات فالله صفاته لا تنحصر في ثلاث. ويشهد لذلك أنه قال: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖسُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. فالقول بأن له ولد ينفي الوحدانية حتى على زعمهم أن الولد هو كلمته أو اللوغوس ماداموا يصرحون بأنه عين قائم بذاته يستقل بالفعل وليس مجرد صفة للذات وهذا  صحيح في نفس الأمر سواءا سلموا بذلك أم لا.
لكن عملا بالأرجح فالقصود إذا هو اتخاذ المسيح ومريم إلهين مع الله كما في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ . واتخاذهم آلهة معناه التوجه إليهم بالدعاء و المناجاة وطلب قضاء الحاجات وتفريج الكربات. ذلك أن القرآن بالأساس يعالج شرك الألوهية بمعنى إشراك غير الله في العبادة كما كان يفعل مشركوا العرب وقد حكى القرآن عنهم قولهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. وكذلك قال في شأنهم: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ.
أما إشراك المسيح في العبادة فهذا يفعله النصارى جميعا وأما إشراك مريم - لكونها "والدة الإله" Theotokos في زعمهم - فهذا مشهور عن طائفة الكاثوليك وربما غيرهم أيضا في صورة التضرع لها في قضاء الحاجات والمثول أمام تصاوير العذراء ونحو ذلك من صور الغلو على غرار غلاة المتصوفة. ومن أمثلة ذلك الصلاة المعروفة بـ Sub tuum praesidium Ὑπὸ τὴν σὴν εὐσπλαγχνίαν أو "تحت حمايتك" وفيها: نستغيث برحمتك يا "والدة الإله" لا تزدري تضرعاتنا في أوقات الضيق بل نجينا من الأخطار يا مريم المباركة و الطاهرة.
و النصارى وإن كانوا يدعون غير المسيح ومريم من القديسين لكن للمسيح ومريم منزلة خاصة لا تدانيها منزلة سائر القديسين. ولذلك يشيرون إلى تقديسهم وعبادتهم لله بمصطلح latria λατρεία ولمريم بمصطلح hyperdulia بمعنى المبالغة في العبودية ولسائر القديسين dulia δουλεία والتي تعني حرفيا العبودية. فهي تستحق من التقديس و العبادة ما لا يستحقه سائر القديسين.
والنبي أيضا أشار إلى ذلك بقوله: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)).
فهؤلاء الصالحون جميعا داخلون في عموم قوله: أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا.

وفي هذا ونظائره قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ.
لكن القرآن ذكر أن أهل الكتاب من اليهود و النصارى - بخلاف مشركي العرب - لا يختلفون من حيث المبدأ – وإن خالفوا بممارساتهم ذلك المبدأ – أن الله وحده الجدير بالعبادة. ولذلك في رسالة النبي إلى هرقل والتي رواها البخاري: بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى . أما بعد ، فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، و  يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.
فقوله تعالى: كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. أي:  نستوي نحن وأنتم فيها. ثم عالج ذريعة تذرعوا بها إلى عبادة المسيح بقوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا.
والذريعة هي زعمهم أن كلمة الله من ذات الله وأن كلمته ليست غيره  بل هي الله ثم إن هذه الكلمة تجسدت في صورة المسيح ولهذا يعتقدون أن المسيح مستحق للعبادة. واستندوا في ذلك على النص الوارد في مطلع إنجيل يوحنا وفيه: فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ. وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهُ.. إلى قوله: وَالْكَلِمَةُ صَارَ بَشَراً. غير أن هذا ليس من كلام المسيح بل من كلام مؤلف إنجيل يوحنا.
فرد عليهم القرآن بأن الكلمة هي "كن"  كما في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ . أو البشارة بعيسى كما في قوله: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . فليس معنى أنه كلمته أنه الكلمة نفسها ولكنه مخلوق بها أو أن الكلمة بشارة الله به وأن المسيح هو المبشر به. والكلمة وإن كانت مفردة إلا أنه قد يقصد بها الكلام وليس الكلمة الواحدة  كما في قوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ  إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا. وهي قولهم: اتخذ الله ولدا. وكما في قوله: كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا. والكلمة هنا هي قوله: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ. لكن النصارى اختلط عليهم الكلمة بالمخلوق بها و البشرى بالمبشر به. وكما اختلطت عليهم فقد اختلطت على الجهمية، لكن هؤلاء على خلاف النصارى استدلوا بذلك على أن القرآن و سائر كلام الله مخلوق.
 قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "الرد على الجهمية و الزنادقة" : ثم إن الجهم ادعى أمرا آخر فقال إنا وجدنا آية في كتاب الله تدل على أن القرآن مخلوق فقلنا أي آية فقال قول الله : { إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته} وعيسى مخلوق فقلنا إن الله منعك الفهم في القرآن عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجرى على القرآن لأنه يسميه مولودا وطفلا وصبيا وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهى يجرى عليه اسم الخطاب والوعد والوعيد ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو الكن ولكن بالكن كان فالكن من الله قول وليس الكن مخلوقا.
وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا عيسى روح الله وكلمته لأن الكلمة مخلوقة وقالت النصارى عيسى روح الله من ذات الله وكلمته من ذات الله كأن يقال إن هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة. اهـ
فبهذا أبطل القرآن حجة النصارى في زعمهم أن المسيح هو الله وابن الله  وأنه مستحق للعبادة فهو بشر يأكل الطعام  ويمشى في الأسواق  وعرضة للفناء ثم ليس هو  عين كلمة الله بل مخلوق بها. و تعرض الإمام أحمد إلى ما زعمه الجهمية من أن كلام الله إما هو الله أو هو غيره؟ - وفي سياقه رد على النصارى أيضا - قائلا أن كلام الله ليس هو الله ولا هو غيره. فالله لم يقل في القرآن : القرآن أنا أو أنا القرآن بل قال أن القرآن كلامه. فالقرآن هو كلام الله و الكلام صفة للمتكلم فلا يقال لصفة من صفات الله أنها هي الله ولا يقال أنها غير الله بل هي قائمة بذاته ولا يقال أنها مخلوق لأن صفات الله ليست مخلوقة.
والقرآن لو ألصق بهؤلاء الآباء الأولين تهمة القول بثلاثة أرباب حيث قالوا بالتفاوت في المنزلة بين أقانيم الثالوث لما كان هذا افتراءا عليهم بل لو ألصقها بمن جاء بعدهم ممن لم يقولوا بالتفاوت لَمَا كان مفتريا عليهم لأن لازم قولهم إثبات ثلاثة أرباب حيث قالوا أن الصفات أعيان قائمة بذاتها وتستقل بالفعل فالإبن هو الذي تجسد – بل وصلب عند أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة كالنصارى القبط – دون الآب و الروح، و الروح هو الذي حل على مريم دون الآب فحملت. ولكن الراجح أن القرآن لم ينسب إليهم ذلك وإن كان ذلك لا يعني أنه ينفيه عنهم.
أما "الروح القدس" التي يقصد بها النصارى حياة الله واشتبهت عليهم الصفات بالأعيان فظنوا كما ظنوا في الكلمة أن حياة الله عينا قائم بذاته فلم يتعرض لها القرآن لأن القرآن في سياق معالجة شرك الألوهية وليس البحث الكلامي الفلسفي هل الصفات أعيان قائمة بذاتها أم لا أو هي جواهر أم أعراض، ولأنهم لم يتخذوا من حياة الله ذريعة لعبادة أحد من الخلق كما فعلوا في شأن الكلمة. فلم يقولوا أن الروح القدس أو حياة الله حلت في شخص أو تجسدت وعبدوه لهذا الغرض.
لكنه تناول في سياق مستقل المقصود من الروح و روح القدس الذي ورد في الكتاب المقدس من أنه هو ملك الوحي جبريل عليه السلام أو نفس الوحي الذي ينزل به كما أنه – أي لفظ الروح - يطلق على الروح المخلوقة التي تنفخ في الإنسان فيحيا.
وروح القدس في الكتاب المقدس هو الوحي وليس أقنوم ولا عينا قائما بذاته وقد يشير إلى الملاك الذي سماه أشعياء بملاك الحضور  الذي يمثل الحضور الإلهي Mal'akh ha-Panim, מלאך הפנים كما في إشعياء 63 وهو الذي أملى على موسى الألواح بحسب سفر "اليوبيلات" و الذي كان ضمن مخطوطات البحر الميت وتعترف به الكنيسة الأثيوبية. ومن هذا الباب قول ورقة في شأن جبريل: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى. قال النووي:اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَمَّى النَّامُوسَ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا. غير أن الترجمة السبعينية تشير إلى أن ملاك الحضور ليس شخصا آخر بل هو الرب نفسه!
وقد أثارث مسألة "ملاك الرب" إشكالية لدى المفسرين في فهم المقصود منها ففي حين أن العهد القديم صرح بأن وسيط الوحي هو ملك كما في غير موضع من العهد القديم فقد فهم عديد من آباء الكنيسة أن ملاك الرب هو الرب نفسه.
ومن أمثلة وساطة الملاك للوحي ما يلى:
وحي ملاك الرب لهاجر: "وقال لها ملاك الرب تكثيراً أكثر نسلك فلا يُعد من الكثرة"...وحي ملاك الرب لإبراهيم: "فناداه ملاك الرب من السماء وقال إبراهيم إبراهيم. فقال هأنذا. فقال لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً. لأنى الآن علمت أنك خائف الله"  ... وحي ملاك الرب لبلعام :فقال ملاك الربّ لبلعام أذهب مع الرجال وإنما تتكلم بالكلام الذى أكلّمك به فقط". ...وحى ملاك الرب لجدعون: فَقَالَ لَهُ مَلاَكُ اللَّهِ: «خُذِ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ وَضَعْهُمَا عَلَى تِلْكَ الصَّخْرَةِ وَاسْكُبِ الْمَرَقَ». فَفَعَلَ كَذَلِكَ. وبحسب التلمود فإن جبريل و ميكائيل ورفائيل هم الذين بشروا إبراهيم بأن زوجته ستلد ولدا.
يقول  هيو بوب Hugh Pope في دائرة المعارف الكاثوليكية: الآباء الأولون – تأويلا لنص  الترجمة السبعينية تأويلا حرفيا – قالوا أن الرب نفسه هو الذي ظهر لموسى ليسلمه الشريعة ومن ثم كان من الطبيعي لترتليانوس أن يعتقد أن هذا الظهور هو إرهاص للتجسد (أي في صورة المسيح فيما بعد) وعلى خطاه سار الآباء الشرقيون.

 Pope, Hugh. "Angels." The Catholic Encyclopedia. Vol. 1. New York: Robert Appleton Company, 1907
 وذكر "بوب" أن الأسقف ثيودوريطس أسقف مدينة  كورش (النبي هوري) كان يرى أن ذلك الملاك في الحقيقة هو "المسيح" - ثم في المقابل عرض لرؤية الآباء اللاتينيين كجيروم وأوغسطين من أنه مجرد ملاك. وكان يوستينيوس الشهيد – كما تقدم في حواره مع تريفو - فضلا عن كونه يرى أن ما يشار إليه بالملاك هو  في الحقيقة روح القدس الذي هو إله في زعمه والواسطة بين الله و البشر فكان يرى أيضا أن ملاك الرب هو في الحقيقة تجلي للمسيح ولذا يرى البعض أنه لم يكن يميز بن الروح و المسيح ومن ثم فهو لم يكن مُثَلِّث بل مُثَنِّي. Binitarian
و بالبرغم من أن نص الخروج كما في الإصحاح 3 صرح بأن الذي ظهر لموسى بِلَهِيبِ نَارٍ وَسَطَ عُلَّيْقَةٍ هو ملاك الرب فإن في العهد القديم مثل التكوين 22 ما يوهم أن ملاك الرب هو الرب نفسه، حيث ورد في شأن إبراهيم: 11 فَنَادَاهُ مَلاكُ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «إِبْرَاهِيمُ، إِبْرَاهِيمُ» فَأَجَابَ: «نَعَمْ. 12 فَقَالَ: لا تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الصَّبِيِّ وَلا تُوْقِعْ بِهِ ضَرَراً لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ تَخَافُ اللهَ وَلَمْ تَمْنَعِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي. وكذلك في التكوين 31: 11 وَقَالَ لِي مَلاكُ اللهِ فِي الْحُلْمِ: يَا يَعْقُوبُ، 12 تَطَلَّعْ حَوْلَكَ وَانْظُرْ، فَتَرَى أَنَّ جَمِيعَ الْفُحُولِ الصَّاعِدَةِ عَلَى الْغَنَمِ هِيَ مُخَطَّطَةٌ وَرَقْطَاءُ وَمُنَمَّرَةٌ. فَإِنِّي رَأَيْتُ مَا يَصْنَعُهُ بِكَ لابَانُ. 13 أَنَا إِلَهُ بَيْتِ إِيلَ، حَيْثُ مَسَحْتَ عَمُوداً، وَحَيْثُ نَذَرْتَ لِي نَذْراً. الآنَ قُمْ وَامْضِ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ وَارْجِعْ إِلَى أَرْضِ مَوْلِدِكَ.
غير أن الصواب في هذا أن الملاك - بعد عبارة تمهيدية تدل عل كونه ملاك الرب - يتحدث نيابة عن الله بصيغة المتلكم، أي على سبيل المثال: وقال لها ملاك الرب (يقول الرب) تكثيراً أكثر نسلك فلا يُعد من الكثرة. وليس كما زعم البعض أن عبارة "ملاك الرب" هي مقحمة على النص.

 The Polish Journal of Biblical Research, Vol. 12, No. 1 (23), pp. 55-70
تقول "سوزان جاريت" - أستاذ العهد الجديد - أن اعتبار المسيح هو ملاك الرب له مسوغات في التصورات اليهودية من قبل. فبعض اليهود فهم أن ملاك الرب هو كائن منفصل تماما عن الله وأنه بمثابة الساعد الأيمن أو الوزير و الذي كان يقوم بدور رئيس الملائكة فضلا عن أدوار أخرى من بينها كونه الواسطة بين الله و البشر. في حين أن آخرين  وظفوا مفردات أو تراكيب لغوية استخدمت في الكتاب المقدس لوصف ملاك الرب في الإشارة إلى صفات و خصائص الرب نفسه مثل كلمة الله ومجد الله وحكمة الله و روح الله و قدرة الله وكأن هذه الصفات و الخصائص الإلهية هي ملائكة منفصلة عن الذات الإلهية. ومن ثم فإن الكتاب المسيحيين الأوائل مثل يوستينيوس الشهيد عندما ربطوا بين المسيح وكلمة الله وبين الكلمة و ملاك الرب فهم لم يخترعوا شيئا من لا شيء بقدر ما رتبوا على أساليب راسخة في فهم نصوص الكتاب المقدس.

Garrett, Susan R. (2008). No Ordinary Angel: Celestial Spirits and Christian Claims about Jesus 
واستخدام الخصائص الإلهية في الإشارة للملائكة مثل "جبروت الله"  أو " قوة الله " في الإشارة إلى جبريل   גַּבְרִיאֵל  gabrı̂y'êl - فكلمة גֶּבֶר geber التي يتألف منها لفظ "جبريل" تأتي بمعنى الجبار أو المحارب أو ذو البأس في الحرب - لا يعني أن هؤلاء الملائكة هم نفس تلك الخصائص أو الصفات الإلهية بل هم وسائل لها فإنه يقال  لوسيلة الرحمة "رحمة الله" و لوسيلة إظهار القوة و البأس أو الجبروت "قوة أو بأس أو جبروت الله". كما قال ذو القرنين عن السد" هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي " أو قول الله في شأن النبي: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ. و في الحديث: "إنَّما أنا رَحْمةٌ مُهْداةٌ. فليس السد هو صفة الرحمة  نفسها بل هو وسيلة للرحمة وكذلك النبي ليس هو صفة الرحمة بل وسيلة للرحمة أي فجَعَلَني سببًا لأنْ يَدْخُلوا في رحْمةِ الحقِّ سُبْحانَهُ. فظن هؤلاء أن تلك الصفات هي أعيان قائمة بذاتها وأنها ليست شيئا غير الله أو ما يسمونه بالأقانيم لأنها أطلقت في شأن الملائكة وإن كان إطلاقها هو على النحو الذي تقدم.
ويغلب على ظنى أن هذا هو الداعي لذكر الملائكة المقربين في قوله تعالى: لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا. فكما سبق وأن أوضح أن المسيح ليس هو كلمة الله بل مخلوق بالكلمة فهو يشير إلى أن الروح الذي ظنوا أنه الله أو حياة الله  أو غير ذلك من صفات الله  ما هو إلا ملك من الملائكة المقربين وأنه لن يستنكف أن يكون عبد لله.
فالصواب أن روح القدس هو ملك الوحي كما هو في الإسلام وقد يطلق على الوحي لفظ الروح كما في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا. وقوله: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ. كما أن الروح تطلق على التي تحيا بها الأبدان و هي مخلوقة كما في قوله: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي. أي روح مملوكة لى فهي تضاف في هذا السياق إضافة ملكية  كعبدي و بيتي. و الروح ruach רוח في العهد القديم تطلق على الريح كما في التكوين الإصحاح الأول (1:2). لكن في العربية لا تطلق الرُّوح على الريح ولكن قد تسمى رَوْح.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك