وجه الاستدلال في إجابة الدعاء


وجه الاستدلال في إجابة الدعاء

الله ليس رب المسلمين وحدهم

لفظ الجلالة: الله هو اسم علم على الذَّات العليَّة الواجبة الوجود. وهو فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كما في قوله تعالى على لسان رسله: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ. وهو رب الخلائق أجمعين كما في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. والرب هو المالك المدبر. وهو من نقصد عندما نتكلم عن وجود الخالق و الصانع والمدبر للكون فلا نقصد به معبود أمة بعينها بل كما قال موسى لفرعون لما سأل " وما رب العالمين" : قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ. وقال: قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ.
ولابد أن يفرق بين أن من يعنيه القرآن بلفظ الجلالة الله هو الرب الخالق المتصرف المدبر وبين كون التصور الذي يقدمه القرآن أو غيره من الكتب التي يُدعى أنها كتب سماوية هل هو تصور مطابق أم لا وبين كونه هو من أوحى بتلك الكتب أم لا.


الله هو اسم الرب لدى اليهود والنصارى و مشركي العرب

لغة اختلف النحاة في أصل الكلمة فذهب سيبويه و البصريون إلى أن لفظ الجلالة "الله" من الفعل "لاهَ" بمعنى علا و ارتفع أو استتر و الاسم منه "لاهُ" كما في قول الأعشى: كَدَعْوةٍ من أَبي رَباحٍ يَسْمَعُها لاهُه الكُبارُ. أَي إلاهُه، ثم أدخلت عليه ألف لام التعريف فصارت "اللاه" وعلى عادة العرب قديما في عدم كتابة ألف المد صارت تكتب "اللـه" أو الله. فيما ذهب آخرون أنها في الأصل "الإله" واختصرت إلى "الله". وكان العرب في الجاهلية يعرفون اسم الله و يقرون بأنه هو خالق السماوات و الأرض وكانوا يقولون ما نتعبد للأوثان إلا لتقربنا إلى الله كما ذكر القرآن.
أما في الآرامية  فلفظ إله אלה فيها ينطق Elah  و معرفة אלהא و ܐܠܗܐ  تنطق ʼĔlāhā  وقد ورد هذا اللفظ في سفر إرميا (10:11) حيث الآية الوحيدة في السفر كله و التي كتبت بالآرامية وكذلك في أسفار عزرا و دانيال. وفي السريانية ܐܲܠܵܗܵܐ  و تنطق ʼAlâhâ  بمعنى الإله.
وقد أسفرت الكشوف الأثرية في منطقة "أم الجمال" شمال الأردن عن استخدام المسيحيين العرب قبل الإسلام كلمة "الله" في الإشارة إلى الإله وبعض المقابر هناك احتوت على أسماء مثل "عبد الله".
وكذلك احتوت وثائق سريانية قديمة و التي تضم قوائهم بأسماء الشهداء المسيحيين في عصر مملكتى حمير وأكسوم على كلمة الله في عدد لا يحصى من المرات.
وكذلك في نقش بزبد جنوب حلب السورية  باللغات اليونانية و السريانية و العربية على مدخل مقبرة مسيحية يعود للعام 512 ميلادية كتبت عبارة "بعون الإله" و بالسريانية وردت كلمة الإله بلفظ Alaha.
وكذلك يطلق عليه في الديانات الإبراهيمية بعض أسمائه في القرآن مثل رب العالمين   רבונו של עולם  Ribono shel'Olam  و الرحمن HaRachaman و القدوس HaKadosh.

وعندما يترجم لفظ الجلالة إلى اللغات غير السامية فيترجم بحسب كل لغة ففي الإنجليزية يترجم إلى God  و في اليونانية Theos  Θεός  و الفرنسية   Dieu والألمانية  Gott  واللاتينية Deus وهكذا.


الفرق بين توحيد الألوهية و الربوبية

أما توحيد الألوهية: المراد به إفراد الله جل وعلا بالتعبد في جميع أنواع العبادات. ومن هذا الباب قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ. وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ. وهذا التوحيد الذي انحرف عنه الأمم المشركة وكثير من اليهود والنصارى.
وأما توحيد الربوبية: هو الإقرار بأن رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، والمتصرف فيه هو رب واحد وهو الله عزو وجل وهو كما تقدم الذَّات العليَّة الواجبة الوجود فلا شريك له في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه. ومن هذا الباب قوله تعالى: ألاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ. وقوله: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.  وقوله: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ. وقوله: ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ.  وهذا التوحيد لم ينحرف عنه عامة الأمم.
وأما توحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في القرآن والسنة، والإيمان بمعانيها وأحكامها. وهذا انحرف عنه المشركون وكثير من اليهود والنصارى فوصفوه بما لا يليق وبما لم يصف به نفسه في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه. ويقابله الإلحاد في أسمائه تعالى وصفاته. ومن هذا الباب قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قال يعقوب بن السكيت : الإلحاد هو العدول عن الحق، وإدخال ما ليس منه فيه. والمعنى: أي العدول بها عن مقصودها. وقال البغوي: قال أهل المعاني : الإلحاد في أسماء الله : تسميته بما لم يسم به، ولم ينطق به كتاب الله ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.


رسالات الأنبياء لدعوة الناس بالأساس لتوحيد الألوهية

قال الصنعاني رحمه الله: اعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه، ولذا قالوا (أي قوم هود عليه السلام):  أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ.  أي لنفرده بالعبادة، ونخصه بها من دون آلهتنا؟... فعبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا له أنداداً.


انحراف المشركين و اليهود والنصارى عن توحيد الألوهية

اتخاذ المشركين وبعض اليهود وعامة النصارى للمخلوقين قربانا آلهة  - أي يتقربون بهم إلى الله - ويشركونهم مع الله في العبادة هو ما أنكره القرآن على هؤلاء. وسمي هؤلاء الذين يتخذونهم من دون الله آلهة لاعتقاهم أن العبادة تحق لها ولذا يقال تأله الشخص أي تعبد وتنسك ولأنهم يتألهون هؤلاء المخلوقين أي يتعبدون لهم فسموا آلهة. والنصارى وإن كانوا لا يصرحون بلفظ "الآلهة" كما فعل المشركون إلا أن حقيقة ما يفعله النصارى من عبادة مريم والمسيح  هو تأليه لا يختلف عما كان يفعله المشركون في الجاهلية فهم آلهة بهذا المعنى وكذلك ما فعله بعض اليهود في شأن "عزير".
واحتج القرآن على الجميع بتسليمهم أن الله وحده هو الذي يملك النفع و الضر وهو الذي يملك إجابة الدعاء وتسليمهم بأن تلك الآلهة التي يدعونها من دون الله لا تملك شيئا من ذلك وأنهم يتخذونهم شفعاء عند الله ليخلص إلى أنه وحده الجدير بالعبادة دون هؤلاء لأن الذي يملك ذلك هو وحده المستحق ولو كان هؤلاء شفعاء فغايتهم أن يتوجهوا بدورهم إلى ذي العرش سبحانه ليطلبوا منه إجابة الدعاء. ومن هذا قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه. وقوله: قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. وعليه فلا تجوز لهم العبادة  كالدعاء و التضرع لقضاء الحاجات وتفريج الكربات، وإلا كيف يجعلون من يملك النفع و الضر و إجابة الدعاء كمن لا يملك سواءا بسواء. فهذا لا يستقيم في صحيح العقول.


هل الله يجيب دعاء الكافرين؟

الأدلة على أن الله قد يجيب دعاء الكافرين ممن ليس لديهم اعتقاد صحيح أدلة متعددة نذكر منها قوله تعالى:  أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ. فلم يفرق بين مؤمن وكافر. ويدل عليه قوله: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا. وقوله: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ. رواه البخاري ومسلم. فلم يفرق بين مؤمن وكافر.
قال ابن تيمية رحمه الله: والخلق كلهم يسألون الله مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار؛ فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم. [الفتاوى 1/ 206]. وقال أيضا: وأما إجابة السائلين فعام؛ فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافرا. [الفتاوى: 1/223]. وقال: فليس كل من متعه الله برزق ونصر، إما إجابة لدعائه، وإما بدون ذلك، يكون ممن يحبه الله ويواليه، بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم في الدنيا، وما لهم في الآخرة من خلاق.[الاقتضاء: 2/315].

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه، ولا محباً له، ولا راضياً بفعله؛ فإنه يجيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر.[إغاثة اللهفان: 1/215].


هل إجابة الدعاء وسيلة للاستدلال على وجود الله؟

قد يرى البعض أن إجابة الدعاء وسيلة للاستدلال على وجود الله وقد يزعم الملاحدة أن حصول ما يدعو به الإنسان أحيانا مجرد اتفاق ولا شأن لحصوله بدعائه بدليل أنه أحيانا يدعو ولا يستجاب. لكن الأكيد أن عدم حصول ما يدعو به الإنسان ليس دليل على عدم وجود الله لأن الإنسان قد يدعو بشر في دينه أو دنياه وهو يحسب أنه خير أو يدعو بما لا يرضاه الله أو بما ليس له بحق كأن يكون حق غيره من العباد. ومن هذا الباب قوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء. رواه مسلم
وهنا تجدر الإشارة إلى أن وجه الدلالة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. ليس استدلال على عدم وجود الشركاء وبالتالي لا يصح الاستناد إلى ذلك في نفي وجود الله لو دعوته فلم يستجب. بل هو استدلال على عدم إمكانية إجابتهم للدعاء. فهو هو يقول لمن يزعم أن لهؤلاء الشركاء – الذين هم خلق من خلق الله- كالأوثان أو مريم أو المسيح أو عزير قدرة على إجابة الدعاء على خلاف ما يقتضيه العقل لأن هؤلاء عباد مثلهم لا يملكون من أمرهم شيئا بل منهم من لا يحرك ساكنا كالأوثان أن يثبت ذلك بالتجربة وإلا فدعواهم تفتقر لأي سند فلا سند عقلي ولا تجريبي.
وهذا بخلاف الرب عز وجل فلا يوجد أحد يشكك في كونه يملك النفع والضر ويملك إجابة الدعاء. وأضرب مثالا على ذلك – ولله المثل الأعلى – بملك من الملوك يعلم الناس جميعا أنه يملك قضاء مصلحة ما من مصالح العباد تستعصي على آحاد الناس كالتدخل مثلا بسياسات لعلاج الركود الاقتصادي كما تفعل الحكومات أحيانا بضخ أموال في السوق أو ما يعرف بزيادة الانفاق الحكومي. لكن لو انبرى أحدهم وزعم أن فلان من آحاد الناس يمكنه قضاء هذه المصلحة لو سألناه لكان أول شيء يتبادر للذهن هو القول افعل هذا إن كنت صادقا. لكن الناس لن تشكك في قدرة الملك على قضاء هذه المصلحة حتى ولو لم يستجب لطلبهم. فمن يؤمن بوجود الله لن يشكك في قدرته على إجابة الدعاء أو في كونه يملك النفع والضر. أما الملحد فهو كمن يشكك في وجود الملك أصلا أو يشكك في قدراته. ولهذا فهذا الخطاب موجه لمن يؤمن بوجود الله لا من ينكر وجوده وهو حجة على من يثبت وجوده لا من ينكر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك