القصص القرآني (قصة لوط عليه السلام نموذجا)

القصص القرآني (قصة لوط عليه السلام نموذجا)

تناولت في موضوع سابق بعنون "أصالة القرآن" مزاعم المستشرقين كأبراهام جيجر ومن لف لفهم من الملاحدة عن اقتباس القرآن حكايات الكتاب المقدس ونقلت تفنيد أحد هؤلاء المستشرقين وهو "يوهان فوك" في كتابه "حول أصالة النبي العربي" لتلك المزاعم السطحية الخاوية لجيجر ومن حذا حذوه ممن حاولوا اختزال التشابه بين القصص القرآني وأسمار الكتاب المقدس إلى عملية انتحال مبتذلة. وانتقد "فوك" أن جيجر – وأمثاله - أغفلوا التغيرات الجوهرية التي طرأت على تلك المفاهيم والتصورات في طريقها إلى النص القرآني، كما انتقد تصور تلك التغيرات على أنها مجرد إساءة فهم وليست تعديلات ذات مغزى وتؤدي دورا وظيفيا. وانتقد إغفال هؤلاء أن القرآن كنص مؤسس يمثل استجابة -لأسئلة وإشكاليات معاصرة ملحة – استصحبت ونقحت و كيفت وأعادت تفسير القصص و صياغة المفاهيم. ورأى أن توجه هؤلاء يفتقد إلى الرؤية الكلية وانتهى بهم المطاف لمجرد البحث عن مصدر ما لكل شاردة وواردة على ما في ذلك من ابتذال وتكلف.

قصة لوط عليه السلام نموذجا

يمكن تلخيص قصة لوط في الكتاب المقدس على أنه مجرد شخص مرافق لإبراهيم وابن أخيه. وقد كان له غنم وبقر وخيام كما لإبراهيم فَضَاقَتْ بِهِمَا الأَرْضُ لِكَثْرَةِ أَمْلاكِهِمَا فَلَمْ يَقْدِرَا أَنْ يَسْكُنَا مَعاً. وَنَشَبَ نِزَاعٌ بَيْنَ رُعَاةِ مَوَاشِي أَبْرَامَ وَرُعَاةِ مَوَاشِي لُوطٍ. وآل الأمر إلى أن طلب إبراهيم من لوط أن يعتزله كي لا يصير نزاع بين رعاته ورعاة لوط. فاختار لوط لنفسه حوض الأردن وارتحل شرقا وأقام في مدن السهل حيث نصب خيامه بجوار سدوم التي كانَ أَهْلُها مُتَوَرِّطِينَ فِي الشَّرِّ وَخَاطِئِينَ جِدّاً أَمَامَ الرَّبِّ.بينما سكن إبراهيم في كنعان.
ثم ساق سفر التكوين قصة عن وقوع لوط في أسر كَدَرْلَعَوْمَرَ مَلِكِ عِيلامَ وحلفائه في حرب الأربعة ملوك ضد خمسة ملوك، وقصة استرجاعه من قبل إبراهيم و ثَلاثَ مِئَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ غِلْمَانِهِ الْمُدَرَّبِينَ الذين جردهم لهذه المهمة. ثم ذكر السفر مجىء الثلاثة ملائكة في صورة رجال إلى إبراهيم وهو جالس عند بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وتبشيره بميلاد إسحاق من زوجته سارة. وذكر توجههم إلى سدوم وعمورة لإهلاك أهلها لأجل آثامهم وتقديم إبراهيم التماس لدى الرب لكي يعفو عن سدوم وعمورة إن وجد أبرياء بينهم. ثم ذكر السفر قدوم الملائكة في صورة رجال على لوط وعرضه عليهم النزول في بيته وإصراره على ذلك. وذكر قدوم الرجال من أهل المدينة مطالبين لوط بإخراج الرجلين لارتكاب الفاحشة بهما ثم عرض لوط تقديم بنتين عذراوين من بناته بديلا عن الرجلين لرجال قومه ليفعلوا بهما ما بدا لهم. ثم ساق قصة إهلاك سدوم وعمورة ونجاة لوط وبنتيه فقط دون سائر أهل بيته من بناته الأخريات وأصهاره الذين ظنوه يمازحهم وكذلك زوجته التي التفت وراءها وتحولت إلى عمود ملح. ثم ذكر أكذوبة اضطجاع بنتيه معه بعد أن سقتاه خمرا لأنه لايوجد حولهم في الأرض رجالا يتزوجونهم كعادة الناس فحملت الكبرى منه بولد وسمته موآب وهو الذي ينحدر منه الموآبيون وحملت الصغرى بولد وسمته بن عمي ومنه انحدر بنو عمون وكلاهما من أعداء بني إسرائيل فيما بعد.
وكما يتضح من هذا السياق أن هذه القصة لا غرض لها سوى إيضاح الأصول الدنيئة لعدوين من أعداء بني إسرائيل. فالسفر لا يقدم لوط على أنه نبي أو صاحب رسالة. ومحور القصة أصلا ليس قضية الفاحشة ولا ارتكاب الموبقات – بل مسألة ذكرت على الهامش - ولا التركيز على قضية انحراف الفطرة في إتيان الذكور بديلا عن الإناث. بل السفر يقدم لوط على أنه مجرد شخصية هامشية لا دور له سوى أنه سلف العمونيين و الموآبيين من ابنتيه سفاحا.
في المقابل القرآن يقدم لوط على أنه آمن بإبراهيم وهاجر معه في سبيل الله : فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وأن الله نجى إبراهيم ولوطا من كيد قومه الذين أردوا أن يحرقوه بالنار إلى أرض الشام: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وأن الله أرسله إلى قومه هؤلاء الذين حل بينهم فكذبوه ومن هذا قوله: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وقوله: َكذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ. وقوله: وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ.
وأنه أنكر على قومه قطع السبل و ارتكاب المنكرات: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ . وأنه توعدهم بالعذاب إن لم يكفوا: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وأنه سفههم لكونهم يذرون ما خلق الله لهم من النساء إلى إتيان الذكران على مافي ذلك من قبح تأباه الفطر السليمة: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ. وأنه لم يسبقهم إلى ذلك الانحراف الخطير المتفشي فيهم على ذلك النحو أحد من العالمين: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ.
وأنهم توعدوه بإخراجه إن لم يكف عن تقريعهم: قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ. فتبرأ منهم ومن عملهم وطلب من الله أن ينجيه وأهله مما يعملون: قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ. فنجاه وأهله أجمعين إلا امرأته فقد أصابها ما أصابهم: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ.
وذكر القرآن قصة مجىء الملائكة في صورة رجال إلى لوط وكيف أنه ضاق بهم ذرعا – على خلاف الرواية التكوينية التي تقول أنه هو من دعاهم للنزول في بيته - لأنه ظنهم في بداية الأمر مجرد رجال وخاف أن يأتي قومه في طلبهم إذا علموا بوجودهم لكنهم أخبروه فيما بعد أنهم ملائكة مرسلون لإهلاك القرية وإخراج لوط وأهله جميعا – بخلاف رواية سفر التكوين - إلا امرأته من القرية قبل تدميرها.
وفي غضون ذلك جاء إليه أهل قريته التي كانت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ كما تقدم يطلبون منه أن يسلم إليهم هؤلاء الرجال ليفعلوا بهم الفاحشة فكرر عليهم لوط مجددا دعوته لهم إلى الإقلاع عن عمل الخبائث والاستغناء بالنساء - ولو من أهل بيته من خلال الزواج بهن - عن الرجال كما هو مقتضى الفطرة السليمة لكنهم ألحوا في طلبهم الخبيث وقالوا مالنا غرض في النساء وأنت تعلم ما جئنا لأجله. حينذ أخبره الملائكة أنهم مرسلون من الله ليهلكوا أهل تلك القرية وأمروا لوط أن يخرج بأهل بيته فإن الله سينجيهم إلا ما كان من شأن امرأته.
وهنا يتضح أن الرواية القرآنية ذات مغزى مختلف اختلافا جذريا عن مغزى رواية التكوين. فالرواية القرانية تعالج أحد صور انحراف الفطرة وهو الشذوذ الجنسي و عدول هؤلاء ونحوهم في كل عصر عما خلقه الله لهم من أزواج إلى من هم مثلهم في الجنس سواءا أكانوا رجالا أم نساءا. فإن الله خلق بني آدم رجالا ونساءا ليسكن بعضهم إلى بعض وجعل بينهم المودة والرحمة كما في قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. فرغب هؤلاء عن الفطرة السليمة إلى الشهوات الشاذة المحرمة. فمن هذا يتضح أن القرآن في واد و سفر التكوين في واد آخر فأين هذا من ذاك!. و بالتالى الزعم أن القرآن ردد الرواية التكوينية تلك دون تصحيح هو زعم ساذج وسطحي ولا حظ لقائله في الفهم و الاستيعاب.فالمقطوع به هو أن القرآن يحرم الزنا تحريما باتا. فإذا كان القرآن من المعلوم قطعا أنه يحرم هذا التصرف و المسلمون في مشارق الارض ومغاربها مجمعون على أن هذه حقيقة من حقائق الدين لا تقبل الشك ولا التأويل فما معنى الزعم أن القرآن يقول أن لوط أراد أن يقدم بناته للشواذ ليفعلوا بهن ما يحلو لهم. ما هو الحكم الذي يترتب على هذا الزعم؟ حتى اليهود عليهم لعائن الله عندما نسبوا هذا إلى لوط يقولون أن فعل لوط هذا فعل قبيح كما قالوا في فعل سليمان فهم فقط طعنوا في لوط وسليمان ولم يبيحوا تلك الفعلة التي نسبوها للوط أو سليمان. وقول لوط لهم: أليس منكم رجل رشيد. دليل على أنه يدعوهم إلى الرشاد. فلا معنى لدعوتهم إلى ارتكاب الفاحشة ببناته ويسمى هذا رشادا منهم إن هم قبلوه. فقط القرآن أسلوبه مجمل فلا داعي لذكر تفاصيل هناك غنى عن ذكرها. فمن نافلة القول أن لوط قطعا لا يعني ارتكاب الفاحشة ببناته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك