حديث لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَّا ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ

حديث لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَّا ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ هو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما
والكذب المقصود به ههنا "المعاريض" وليس الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله وقد روى البخاري في الأدب المفرد عن عمران بن الحصين أن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب.
قال ابن عقيل: وإنما أطلق عليه ذلك لكونه بصورة الكذب عند السامع وعلى كل تقدير فلم يصدر من إبراهيم عليه الصلاة والسلام إطلاق الكذب.
والمعاريض مشتقة من التعريض في القول، أي خلاف التصريح به. وهي أن يريد الرجل أن يتكلم بالكلام الذي إن صرح به كان كذبًا، فيعارضه بكلام آخر يوافق ذلك الكلام في اللفظ، ويخالفه في المعنى، فيتوهم السامع أنَّه أراد ذلك. ولا يجوز التوسع فيه بل لا يلجأ إليه الإنسان إلا للضرورة كحفظ الضرورات الخمس.
وما يشار إليه بالكذبات أولها قوله: إني سقيم بعد أن نظر في النجوم وكان قوم إبراهيم يعبدون الكواكب والنجوم ويعتقدون أن أوضاعها وحركاتها لها تأثير في مصائر الناس. فقد أراد أن يظنوا من قوله إني سقيم أي أنه عرف من نظره في النجوم أنه مريض كي يتركوه ويذهبوا فيختلي بآلهتهم لكنه قصد في نفسه بقوله إني سقيم معنى آخر غير الذي ظنوه وحملهم على أن يولوا عنه مدبرين. كأن يعني سقيم النفس كاسف البال.
وثانيها قوله: بل فعله كبيرهم هذا. فظاهر قوله أن كبيرهم غضب من أن يعبد معه الصغار وهو أكبر منها فكسرها. لكنه يعني السخرية منهم على عبادتهم الأصنام التي لا تنطق ولذلك قال: فاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ.
وثالثهما قوله لسارة أنها أخته. فبهذا أولا ينفي زعم اليهود أن سارة أخته حقيقة من أبيه كما في التكوين 20:12 أو ابنة أخيه كما ورد في التلمود Sanhedrin 69b و كما زعم الحبر "راشي" من أنها هي يِسْكَةَ ابنة هاران أخي إبراهيم الوارد ذكرها في التكوين 11:29. إلا أن يكون في ذلك الزمان والسياق الثقافي كان من الجائز للرجل أن يتزوج من ابنة أخيه ولكني لم أقف على شيء يؤيد ذلك.
فالحديث ذكر أنه لا معنى لأخوتها لإبراهيم إلا أخوة الدين كما في قوله صلى الله عليه وسلم عند مسلم على لسان إبراهيم: فإنَّكِ أُخْتي في الإسْلَامِ، فإنِّي لا أَعْلَمُ في الأرْضِ مُسْلِمًا غيرِي وَغَيْرَكِ. وقوله في الأرض أي أرض الجبار التي ورد ذكرها في الحديث من أن إبراهيم قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمعهُ سَارَةُ. وهذه الأرض يغلب على الظن أنها مصر كما في قول يوسف: قال اجعلني على خزائن الأرض. وكانت مصر تعرف لدى قدماء المصريين باسم km.t والذي يعني الأرض السوداء وهذا إشارة إلى تربتها الطينية الخصبة. ولما ورد أيضا في سفر التكوين من أن الجدب أصاب أرض كنعان فحمل ذلك إبراهيم على الذهاب إلى مصر و الظاهر أن ذلك كان في عصر المملكة الوسطى في مطلع الألفية الثانية قبل الميلاد. والسجل الأثري لمصر في تلك الحقبة يظهر أنه لكون مصر كانت تتمتع بالخصب و النماء فإن الشعوب المحيطة كانت عندما يصيبها الجدب يلجأ إلى النزوح منها إلى مصر مجموعات بحثا عن الأرض الخصبة ومن جملة هؤلاء مجموعات سامية من كنعان و بلاد الشام بوجه عام. كما كان يدخلها هؤلاء أيضا للاتجار كما يتضح من تصوير مقبرة خنوم حتب الثاني ibascha relief الذي يرجع لعصر سنوسرت الثاني مطلع الألفية الثانية قبل الميلاد.
والجبار المقصود في الحديث يغلب على ظني أنه أحد حكام أقاليم مصر (أحد أقاليم مصر السفلى تحديدا) الذين كان يشار إلى الواحد منهم بـ Ḥaty-a (حاتي عا ) والذين تمتعوا بقدر من الاستقلالية عن الحكومة المركزية حتى أصبحت الولاية في تلك الأقاليم بالوراثة وكان لأحدهم من النفوذ و الولاء في ولايته أحيانا ما يتخطى الطاعة للملك (الفرعون).
والذي حمل إبراهيم على القول بأنها أخته أن هذا الجبار لما بلغه من حسنها وجمالها وقيل له أن تلك المرأة لا يجب أن تكون لأحد غيره وأنه يجب أن يضمها إلى حريمه خشي إن علم أنها زوجته أن يقتلوه كي يصلوا إليها ربما لأن عاداتهم أو قوانينهم لا تسمح بانتزاع المرأة من زوجها وهو على قيد الحياة فإن وجدوا سبيل للتخلص منه زال الإشكال عندهم. فلما طلب الجبار أن تمثل أمامه ليس معنى هذا أن إبراهيم أرسلها كي يزني بها بل لأن الجبار أراد أن يقف على حقيقة ما أخبر به أعوانه عن جمالها وحسنها لينظر في الزواج منها ولم يكن من مفر حينئذ من الخضوع لطلب مثولها أمامه ولو عارض إبراهيم لأخذوها عنوة. ويظهر لي أن في الأمر حيلة ففي الوقت الذي ينكر إبراهيم تعريضا أنها زوجته. تقول هي أنها امرأة متزوجة - أي من شخص آخر غير إبراهيم - كي لا يحق للجبار حينئذ أن يضمها إلى نسائه. ويشهد لذلك ما ورد في المدراش على سفر التكوين Genesis Rabbah 41:2. لكن الفاجر لما رأى من جمالها لما دَخَلَتْ عليه لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فَقالَ لَهَا: ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ القَبْضَةِ الأُولَى، فَقالَ لَهَا مِثْلَ ذلكَ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ القَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، فَقالَ: ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي، فَلَكِ اللَّهَ أَنْ لا أَضُرَّكِ، فَفَعَلَتْ، وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الذي جَاءَ بهَا فَقالَ له: إنَّكَ إنَّما أَتَيْتَنِي بشيطَانٍ، وَلَمْ تَأْتِنِي بإنْسَانٍ، فأخْرِجْهَا مِن أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. قالَ: فأقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السَّلَامُ انْصَرَفَ، فَقالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قالَتْ: خَيْرًا، كَفَّ اللَّهُ يَدَ الفَاجِرِ، وَأَخْدَمَ خَادِمًا. قالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ. (رواه مسلم) وقد ورد نحو ذلك أيضا في المدراش المذكور من أن الله قيض لها ملكا ومعه سوط كلما تجرأ الفرعون أن يمد يده إليها ضربه بالسوط حتى تأمره أن يكف.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك