نسخ التوراة

نسخ التوراة

من جملة ما يحتج به اليهود ومن يقول بقولهم على نفي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة أو كونه مرسل إليهم هو مخالفة بعض ما جاء في القرآن من أحكام ومفاهيم لبعض أحكام التوراة، كما ذكر نثنائيل الفيومي في بستان العقول. وورد الزعم في التلمود أن موسى صلى للرب كي لا يحل حضوره الإلهي على الأمم بعدما فعله بلعام بن باعوراء. Berakhot 7a
وقد أشار القرآن لهذه الأكاذيب بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ. وقوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ.
ثم أنكر عليهم تبديلهم لأحكام التوراة بالرغم من زعمهم هذا فقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وقال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا. أي: إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم، فاقبلوا حكمه، وإن لم يحكم لكم به، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك وقال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ. وقال النبي في تفسير هذه الآية: كانوا يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه, ويحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرِّمونه.

وفي هذا المقال أتناول تقرير هذه المسألة من واقع أسفارهم.

ما ورد في التثنية (12:32) على لسان موسى قائلا: فَاحْرِصُوا عَلَى طَاعَةِ كُلِّ مَا أُوْصِيكُمْ بِهِ. لَا تَزِيدُوا عَلَيْهِ وَلا تُنْقِصُوا مِنْهُ. فهمه الصدوقيون والقرائيون فيما بعد فهما حرفيا زاعمين أنه لا يجوز ألبتة نسخ أو إضافة أحكام على شريعة التوراة. في المقابل ادعى الربانيون القدماء الصلاحية ليس فقط لتعليق بعض أحكام التوراة بل لنسخها.
وتقول الموسوعة اليهودية (Jewish Encyclopedia, 1906) أن الربانيين استندوا في ادعائهم هذا إلى النص الوارد في التثنية (17: 8-11) وفيه: وَاعْمَلُوا بِمُوْجِبِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يُعَلِّمُونَكُمْ إِيَّاهَا، وَالْقَضَاءِ الَّذِي يُصْدِرُونَهُ. وَلا تَحِيدُوا عَمَّا يَنُصُّونَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمٍ لَا يَمِيناً وَلا شِمَالاً.
وفي هذا يقول موسى بن ميمون (Hilkot Mamrim, i.1 & ii.4) أن كل ما يصدر عن مجمع السنهدرين من قوانين وقرارت سواءا كانت تأويلا وفق قواعد التأويل أو صدر وفق متطلبات العصر يجب طاعته. ويضيف أن كل محكمة دينية لها الحق حتى في تعليق بعض أحكام التوراة بشكل مؤقت إذا كان هذا ما تتطلبه مرحلة زمنية ما من باب ارتكاب أخف الضررين مثل الطبيب الذي يلجأ إلى بتر أحد الأطراف للحفاظ على سلامة الجسد ككل. لكن تعلق الموسوعة اليهودية على هذا المثل بالقول : إلا أن بتر أحد الأطراف هو إجراء دائم وليس مؤقت و بالتالى هو مثل مطابق لنسخ الحكم وليس تعليقه بشكل مؤقت مضيفة أنه على خلاف ما يقوله ابن ميمون فهناك حالات واردة في التلمود تم إلغاء أو نسخ بعض أحكام التوراة فيها وليس مجرد تعليق مؤقت.
فالتلمود يحتوى على مبادئ مثل: نسخ حكم قد يكون أحيانا بمثابة صيانة للشريعة ( Men. 99b) ، ومثل: لأن يجتث حكم واحد خير من أن تنسى شريعة التوارة بجملتها ( Tem. 14)، ومثل: واجب العمل من أجل مجد الرب قد يتطلب أحيانا إلغاء حكم من الأحكام.( Ber. 54a and 63a )، ومثل: المحكمة (الدينية) في ظل بعض الظروف يمكنها أن تصدر قرار باجتثاث أحد أحكام التوراة. (Yeb. 89b)
و كبعض الأمثلة على مواقف تم فيها تعطيل أو نسخ بعض أحكام التوارة ساقت الموسوعة المثال الوارد في سفر الملوك الأول الإصحاح 18 عندما قام النبي "إيليا" بتقديم القربان على مذبح تم إقامته على جبل الكرمل في مخالفة للنهي التوارتي عن تقديم القرابين خارج الْمَكَانَ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ وَسَطَ أَسْبَاطِكُمْ لِيَضَعَ عَلَيْهِ اسْمَهُ كما في التثنية 13:12. وتضيف أن الأحبار برروا تصرف إيليا بأنه إجراء مؤقت اقتضته الظروف(Yeb. 90b)
ثما ساقت أمثلة أخرى على نسخ أحكام التوارة منها أن "عزرا" قرر منح " العشور" إلى الكهنة بديلا عن اللاويين على خلاف القانون الموسوى في سفر العدد (18: 21). (Yeb. 86b, Ḥul. 131b)

وكمثال آخر ما فعله الحبر "هيليل" فيما يخص تبرئة المدينين في آخر كل سنة سابعة من الديون. فبحسب التثنية 15: وَفِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ سَابِعَةٍ تُبْرِئُ الْمَدْيُونِينَ مِنَ الدُّيُونِ وَهَذَا هُوَ الإِجْرَاءُ: يَقُومُ كُلُّ دَائِنٍ بِإِبْرَاءِ مَدِينِهِ مِمَّا أَقْرَضَهُ، وَلا يُطَالِبُ أَخَاهُ الإِسْرَائِيلِيَّ بِهِ، لأَنَّهُ قَدْ نُودِيَ بِوَقْتِ الرَّبِّ لإِلْغَاءِ الدُّيُونِ. حيث رأى أن هذا الحكم وإن كان غرضه أن يعود بالنفع على الفقراء إلا أنه ثبت بمرور الوقت أنه ليس في صالحهم، حيث أحجم الناس عن إقراض الفقراء مخافة ضياع الحق في المطالبة بالدين مع اقتراب السنة السابعة. فقد قام بسن إجراء يتم بمقتضاه نقل الدين بواسطة الدائن للمحكمة كتابة بينما تقوم الأخيرة بالمطالبة بالدين نيابة عنه بالرغم من حلول نهاية السنة السابعة.( Mishnah Sheb. x. 3, 4). وهذا في حقيقته إلغاء للحكم التوراتي.
فضلا عن هذا فيما يخص القانون المدني فقد أرسى الحبر شموئيل قاعدة DINA DE-MALKHUTA DINA أو بالآرامية דִּינָא דְּמַלְכוּתָא דִּינָא ومعناها فيما يخص قوانين الأحوال المدنية فقانون البلد هو القانون، وقد منح ذلك الجاؤونيم مرونة في تعديل أحكام المعاملات التجارية بل و إبطالها تماما إذا لزم الأمر. (Giṭ. 10b)
وكذلك ذهب طائفة من أحبار اليهود أن اللحوم التي حرمت على بني إسرائيل لدى دخولهم إلى الأرض المقدسة سيأتي اليوم الذي تباح فيه مستقبلا. ( Midr. Teh. to Ps. cxlvi. 7; Lev. R. xiii.; Ḥul. 17a)
ومن ذلك يتضح أن أحكام التوارة لم تكن بمنأى عن النسخ تماما ولو بوحي سماوي وأنهم فوق ذلك كانوا يتصرفون فيها بآرائهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك