نظرية المعرفة عند ابن تيمية

 نظرية المعرفة عند ابن تيمية


وإن كان ابن تيمية ليس لديه مؤلفات كرسها يعرض فيها لنظريته الخاصة للمعرفة إلا أن ملامح منهج ابن تيمية المعرفي (الإبستمولوجي) يتضح من كتاباته في نقد منطق اليونان مثل كتابه "نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان" الذي اختصره السيوطي في كتاب "جهد القريحة في تجريد النصيحة"، حيث ركز على قضايا المنطق وحذف كافة الاستطرادات في قضايا الإلهيات.  وقد قام بترجمة هذا الكتاب للإنجليزية وعلق عليه أستاذ العلوم الاجتماعية الكندي الفلسطيني الأصل وائل حلاق.


وقد كان دافعه للكتابة في نقض منطق اليونان هو إبطال كلامهم في الإلهيات (الميتافزيقا) الذي تلقاه عنهم المتفلسفة و المتكلمة من المسلمين، أو تأثروا به فحادوا به عن طريقة القرآن و السنة والسلف في مسائل الإلهيات. وقد أدرك أن فساد قولهم في الإلهيات فرع على فساد مسائلهم في المنطق.


وجعل ابن تيمية مرتكزه في نقض كلام فلاسفة اليونان في الحد (التعريف) Definition و قياس الشمول categorical syllogism نقتطين أساسيتين - اتضح منهما منهجه المعرفي - وهما:

أولا: نفي وجود الكليات المجردة Universals  خارج الذهن و التي تسمى المثل الأفلاطونية Forms وما تفرع عن ذلك من تبنيه للمذهب الإسمي Nominalism من أن المطلق بشرط الإطلاق لا وجود له إلا في الذهن وأنه في الخارج عن الأذهان لا يوجد إلا أشياء جزئية معينة يجرد منها الذهن مفاهيم كلية كمفهوم الإنسانية. فلا يوجد في الخارج عن الأذهان كلية مجردة - والتي نسميها الإنسانية - بل لا وجود في الخارج إلا لإنسان معين. وبهذا ونحوه، مما ليس هذا المقال بموضع لبسطه، أبطل كلامهم في الحد (التعريف) وزعمهم أن تصور الشىء لا يُنال إلا بالحد وبين أن واقع الأمر على العكس من ذلك إذ أننا ندرك آحاد النوع أولا دون حاجة لتعريف ثم نجرد منها سمات مشتركة تشكل تعريفا للنوع، على مافي الحد أو التعريف من إشكالات، إذ أنه لا يكاد يخلو تعريف من اعتراضات عليه.


فقال على سبيل المثال هذا الذي يقوم بوضع الحد أو التعريف (الحاد أو المعرف) إما أنه يتصور الشىء الذي يعرفه بواسطة الحد (أو التعريف) أو بوسيلة أخرى فلو قلنا تصوره بواسطة التعريف أو الحد فمن وضع التعريف الذي تصور به الشىء الذي يعرفه؟ وهذا يلزم منه التسلسل، وإما أنه تصوره بدون تعريف وهو المطلوب إثباته. وأول من ذهب إلى نفي الكليات المجردة وواقعية أفلاطون هم الرواقيون Stoics. ومن أشهر من ذهب إلى ذلك في العصور الوسطى "ويليام أوكام"، وفي العصر الحديث "توماس هوبس"، و في الفلسفة المعاصرة "رودلف كرناب" و "نيلسون جودمان" و "ويلارد كواين".


ثانيا: وهو، متصل بأولا، من أن المعرفة تجريبية empirical. ففي كلامه عن قياس الشمول مثل قول: كل البشر فانون. سقراط بشر. إذا سقراط فاني. يقول ابن يتيمة أن قياس الشمول هذا لا يضيف شيئا إلى معرفتنا، إذ أننا نعلم أولا بالاستقراء من فناء سقراط وغيره من آحاد البشر أن البشر يفنون وليس العكس. فقياس الشمول يستخدم نتيجة - وهي أن البشر فانون - نعلمها من خلال الاستقراء -وهو تتبع الجزئيات أي فناء آحاد البشر- كمقدمة يبني عليها استنتاج أن آحاد البشر يفنون! فهذا دور أو منطق دائري أو مصادرة على المطلوب.


وقد تردد ابن تيمية بحسب  "وائل حلاق" بين القول بأن كل صور المعرفة بما فيها المسائل المنطقية و الرياضية و الهندسية كمبدأ عدم التناقض و الثالث المرفوع  ومسلمات إقليدس ونحو ذلك هي أفكار فطرية، وبين القول بأننا نعلمها بالاستقراء. ويذهب وائل حلاق إلى أن الثاني قوله في السابق من كتاباته لكنه عدل عنه إلى القول بأن  مسائل المنطق والمسلمات الرياضية و الهندسية هي أفكار فطرية غرسها الله في أذهاننا في اللاحق من كتاباته إلا أنه حتى في قوله السابق بأن قضايا المنطق والمسلمات الرياضية هي استقراء يقول بأنها غير قابلة للتفنيد أو نعلمها بالضرورة دون أن يوضح لماذا هي كذلك مادمت من باب الاستقراء.


والجدير بالذكر أن هذه القضية لا تزال تشق صف الفلاسفة إلى يومنا هذا فقد ذهب "ديفيد هيوم" و"كواين" وغيرهما إلى أن المعرفة كلها استقرائية تجريبية، في حين ذهب غيرهم إلى أن المسلمات الرياضية وقضايا المنطق هي أفكار فطرية و هذا ما استقر عليه ابن تيمية بآخرة كما تقدم. وكذلك ذهب إلي وجود الأفكار الفطرية في الفلسفة المعاصرة ناعوم تشومسكي لاعتبارات تخص تفسير ظاهرة اللغة. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك