نسخة جودل من الحجة الوجودية

 نسخة غودل من الحجة الوجودية

كورت  جودل Kurt Gödel هو عالم رياضيات شهير ولد عام 1906  في مدينة برنو التي كانت تقع حينئذ في حيز الإمبراطورية النمساوية المجرية و تقع حاليا في جمهورية التشيك. يرجع تاريخ النسخة  الأولى للحجة الوجودية Ontological   argument  في  كتابات "جودل" للعام  1941 تقريبا، غير أنه  لا يعرف عنه أنه أخبر أحدا عند عمله المتعلق بالحجة الوجودية حتى العام 1970 لظنه أنه كان يحتضر. وفي فبراير من نفس العام سمح  لعالم الرياضيات وأستاذ المنطق وعلوم الحاسب "دانا سكوت"   Dana Scott بأخذ نسخة من البرهان والتي تم تداولها في إطار شخصي. في أغسطس من نفس العام أخبر "جودل" الاقتصادي وعالم الرياضيات "أوسكار مورجنستيرن"  Oskar Morgenstern أنه راض عن البرهان. إلا أن "مورجنسترن" زعم أن "جودل" لم يقم بنشر البرهان لأنه كان يخشى أن يعتقد الآخرين أنه يؤمن بوجود الله. إلا أن هذا الزعم يتعارض مع محتوى الرسائل التي أرسل بها إلى والدته – التي لم تكن امرأة متدينة ولا تردد على الكنيسة – حيث أقام الدلائل فيها  بالتفصيل على الاعتقاد في الحياة الآخرة. وفي رد على استبيان أرسل إليه من قبل عالم الاجتماع "برك جراندجان"   Burke Grandjean  قال "جودل" أنه يؤمن بوجود الله  theistic وليس وحدة الوجود pantheistic،  على طريقة أو نسجا عن منوال  "لايبنتز" لا  طريقة "سبينوزا". وكان جودل يرى أن غاية الفلاسفة في العصر الحديث أن يطردوا فكرة الإيمان بالله من عقول الناس كهدف في حد ذاته دون اعتبار للحق في نفس الأمر وهذا من جهلهم وسفههم لعنهم الله.

في العام 1978 تُوفي "جودل" وتم العثور على نسخة أخرى من البرهان – تختلف اختلافا طفيفا عن نسخة "سكوت" - ضمن أوراقه وتم نشر النسختين معا في العام  1987.

تمهيد

في البداية أحب أن أنوه أنه سواءا تقبلت هذا البرهان أو يساورك الشعور بأن خللا ما يعتريه فلا شك أنه مجهود ذهني جبار يحسب لصاحبه ويستحق عليه الثناء.

لابد من التفريق بين نوعين من الحقائق، وهي الحقائق الضرورية necessary truth و الحقائق الاتفاقية/الممكنة contingent truth. فالحقائق الضرورية هي التي يقتضي نفيها الوقوع في التناقض مثل 2 + 2 = 4. فلا يمكن أن يتصور أن يكون الأمر على خلاف ذلك فإذا قلت 2 + 2 لا يساوي 4 هو تناقض كأنك تقول 4 لا يساوي 4 .

أما الحقائق الاتفاقية/الممكنة هي التي يتصور أن يكون الأمر على خلافها. فعلى سبيل المثال: نهر الأمازون يجري في أمريكا الجنوبية. فهذه حقيقة بحكم الواقع فلا شيء في صريح العقل يقتضي أن يجري نهر الأمازون في أمريكا الجنوبية ويمكن أن نتصور أمريكا الجنوبية بلا نهر الأمازون.

فالعبارة إذا كانت صحيحة دائما ولا يتصور أن تكون خاطئة فهي تشكل حقيقة ضرورية وإذا كانت صحيحة بحكم الواقع بمعنى اتفق أو تصادف أنها صحيحة في واقعنا لكن في واقع آخر قد لا تكون صحيحة  مثل جريان نهر الأمازون فهو حقيقة اتفاقية. وإن لم تكن صحيحة في واقعنا لكنها قد تكون صحيحة في واقع آخر - مثل زوال الوجود الصهيوني - فهي حقيقة ممكنة  possible truth وهذا يعني أن وجودها في واقع آخر  هو في الخارج عن الأذهان ووجودها في واقعنا هو وجود ذهني يقدره الذهن.

ثم نقول أن الخاصية "س" تقتضي الخاصية "ص" إذا لم يكن من الممكن تصور واقع تكون فيه الخاصية "س" صحيحة و الخاصية ص غير صحيحة. 

على سبيل المثال:  الخاصية " أطول من مترين"، والخاصية "أطول من متر". فإذا كان هناك شيء يتصف بالخاصية الأولى فلابد أن يتصف بالثانية فلا مجال لأن يكون الشىء أطول من مترين وليس أطول من متر.


مسلمات البرهان axioms :

المسلمة الأولى: من الممكن فرز بعض الخواص الإيجابية من جملة الخواص. وما يعنيه جودل بالخواص الإيجابية أي الخواص الحسنة بالمغزى الأخلاقي كالعدل في مقابل الظلم. 

المسلمة الثانية: إذا كانت الخاصية  الإيجابية ص1  تقضتي الخاصية  ص2 فهذا يعني أن الخاصية ص2 إيجابية.

المسلمة الثالثة:إذا كانت الخواص ص1، و ص2، وص3 .. إلخ هي كل الخواص الإيجابية فإن اجتماع تلك الخواص هو بحد ذاته خاصية إيجابية (وهذه الخاصية هي جوهر أو ماهية essence الإله)

المسلمة الرابعة: إذا كانت ص خاصية ما فهذا يقتضى إما أنها إيجابية أو أن نقيض تلك الخاصية هو الإيجابي.

المسلمة الخامسة: الوجود الضروري – أو الواجب - هو خاصية إيجابية.

ثم يشرح جودل مفهوم "الماهية" أو الجوهر بمعنى الجواب على سؤال: ما هو الشىء؟  فيقول لو أن شيئا ما - ولنسمه س - يُتصور وجوده فإن الخاصية ص تشكل ماهية هذا الشىء إن كانت تلك الخاصية تقتضي جميع الخواص التي يتسم بها هذا الشىء.

ويضيف أن الشىء "س" واجب الوجود أو وجوده ضروري إذا كان لا يمكن تصور واقع إلا و الخاصية "ص" – بالمعنى المذكور آنفا – هي خاصية يتسم بها شيء له وجود في الخارج عن الأذهان في ذلك الواقع.

وبما أن الوجود الضروري خاصية إيجابية فالألوهية تقتضي خاصية الوجود الضروري أي أن الإله ضروري أو واجب الوجود.

فواجب الوجود الذي له وجود في كل واقع ممكن ( ممكن أي يتصوره العقل)

البرهان بطبيعة الحال لا يعتمد على اثبات وجوده الفعلي في كل واقع ممكن كمقدمة وإلا فلا حاجة للبرهان

البرهان فقط يتطلب التصور العقلي لماهية إله جودل من واقع تعريفها الخالي من التناقضات

بما أن الماهية تقتضي وجوب الوجود فمجرد أن عقولنا تتصور إله جودل فهذا يعني أن له وجود فعلي لأن واجب الوجود بخلاف الممكن الوجود ليس بحاجة لمرجح كي يوجد فعليا فتصورنا للممكن الوجود لا يقتضي وجوده الفعلي بخلاف واجب الوجود الذي ليس بحاجة لمرجح

هناك نتيجة يمكن تفريعها على الحجة الوجودية:


الدليل على أن واجب الوجود يتصوره العقل في واقعنا هو برهان الصديقين

الذي يقول أن الممكن بحاجة لمرجح لكن ماذا عن " مجموعة الممكنات" ما يرجحها إما أنه ممكن حادث وإما أنه ضروري أزلي. الاحتمال الأول غير وارد لأنه يجعل الشىء مرجح لنفسه لأن هذا الممكن الحادث عنصر في "مجموعة الممكنات" فيلزم أن ما يرجحها ضروري أزلي.

وسواء قبلنا بالنتيجة أم لا لأن البعض قد يقول أن مجموعة الممكنات ليست كآحاد الممكنات ويجوز أنها ضرورية أزلية ليست بحاجة لمرجح خارجي فهذا لا ينفي أن عقولنا تتصور الكائن الضروري الأزلي وإن لم تجزم به.

فكذلك "مجموعة كل الممكنات" فعقولنا تتصور "مجموعة كل الممكنات" واجبة الوجود أزلية ونعني تحديدا بقولنا بأزلية مجموعة كل الممكنات أن الممكن قبله ممكن وهكذا إلى ما لانهاية في الماضي. فمجموعة كل هذه الممكنات ليس لها أول أي أن المجموعة ككل أزلية وإن كان آحادها حادث (أي آحاد الممكنات أو الممكن المعين) والعقل يتصورها.

فلأن العقل يتصورها كأمر واجب الوجود يعني أنها ليست بحاجة لمرجح لوجودها في الخارج عن الأذهان مما يعني أن مجموعة كل الممكنات التي لا أول لها لها حقيقة في الخارج عن الأذهان أي أن جنس الممكنات أزلي أو أن الممكنات لا أول لها.

وهذا القول ذهب إليه الإمام ابن تيمية بقوله أن الخلق (أي الممكنات أو ما سوى الله) لا أول له فلا يقدر زمن إلا و لله فيه خلق ( أي ممكن رجح وجوده على عدم وجوده).

لكن ليس معنى ذلك أن هناك عين قائم بذاته أزلي سوى الله لأن جنس الممكنات أو مجموعة كل الممكنات ليس عينا قائما بذاته بل هو شىء يقدره الذهن.


ترجمة ببعض التصرف عن مقال باللغة الإنجليزية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك