حقيقة رسالة المسيح من المنظور القرآني

 التصور الذي يضعه القرآن للمسيح عيسى عليه السلام هو أنه نبي أرسله الله إلى بني إسرائيل بآية من الله كما في قوله تعالى: وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ. وأنه جاءهم بالحكمة وليبين لبني إسرائيل بعض الذي يختلفون فيه كما في قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ. وأنه بعث مصدقا لما بين يديه من الكتاب وليحل لهم بعض الذي حُرم عليهم كما في قوله تعالى: وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.

فقوله بعض الذي تختلفون فيه أي ما يتعلق بأمور دينهم مما وقع فيه الخلاف بين فرقهم خاصة الصدوقيين و الفريسيين في مسائل العقيدة كالبعث و الثواب و العقاب الأخروي و الأحكام كبعض مسائل الطهارة و الميراث والشهادات ونحو ذلك مما نشب من خلاف بين تلك الفرق.

وقوله "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم " يحتمل تخفيف بعض أحكام الشريعة الموسوية كتلك المتعلقة بيوم السبت أو التي سنها الأحبار دون مستند.

فقد كان موقف المسيح من السبت أحد نقاط النزاع بين المسيح و أحبار اليهود حيث أخذوا عليه إبراء الأكمه في يوم السبت. و الخلاف منشأه هو في الأصل رؤية المسيح للسبت التي تختلف عن رؤية أحبار اليهود الذين يرون فيه اليوم الذي استراح فيه الرب، إضافة إلى ذلك الممارسات التي تشكل انتهاكاً لحرمة السبت.


ففي حين أن الشريعة الموسوية ألزمت اليهود يتحريم السبت إلا أن الممارسات التي تشكل انتهاكا لحرمة السبت قد أحدث فيها الأحبار أمورا من عند أنفسهم من قبيل ما سماه المسيح "تَعَالِيمَ لَيْسَتْ إِلّا وَصَايَا النَّاسِ". ولذلك أنكر عليهم عدم تجويز إبراء الأكمه في حين أنهم يجيزون إرواء البهائم.


 


وقد ذكر القرآن أن السبت إنما جُعل على بني إسرائيل بظلم منهم كما في قوله: إنما جُعل السبت على الذين اختلفوا فيه. وقد وضحت السنة أن اختلافهم فيه هو أنه فرض عليهم أولا يوم الجمعة ثم أبدل بيوم السبت لأجل نزاعهم وشقاقهم وشُدد عليهم فيه كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: هذا يومهم الذي فرض عليهم - يعني الجمعة - فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له. الحديث

ونفى القرآن أن السبت حرم لأجل أنه اليوم الذي استراح فيه الرب كما يزعم اليهود. قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ.

وقد ورد ذلك في سفر التكوين الإصحاح 2 الفقرة 2:

and God completeth by the seventh day His work which He hath made, and ceaseth by the seventh day from all His work which He hath made.

Young's Literal Translation (YLT)

فما ترجم إلى ceaseth يقابله في العبرانية الفعل שָׁבַת shâbath يعني استراح أو توقف عن العمل

ويقابله في العربية الفعل سبت ومصدره السَّبْتُ أي الراحة و النوم ومنه السبات أي النوم والراحة


 


لكن السياق لا يسمح بترجمتها إلى مجرد التوقف لأنه ذكر بالفعل أنه أنهى عمله

فالترجمة بالعربية لو ترجم الفعل إلى توقف هي كالتالى: بحلول اليوم السابع فقد فرغ الله (أو أتم أو أنهى) من عمله الذي عمل، وتوقف بحلول اليوم السابع عن كل عمله الذي عمل. فلا يخفي ما في ترجمة الفعل إلى توقف من تكلف لأنه لا يضيف جديدا إلى ما ذكر بالفعل.

لكن إذا ترجم إلى استراح يستقيم المعنى: بحلول اليوم السابع فقد فرغ الله من عمله الذي عمل، واستراح في اليوم السابع من كل عمله الذي عمل.

وهذا موافق لترجمة النسخة Complete Jewish Bible

On the seventh day God was finished with his work which he had made, so he rested on the seventh day from all his work which he had made.

وسواءا فسروها أنه أصابه التعب أو مجرد الفراغ من العمل فهو قول باطل


 


فإن الله لم يفرغ من الفعل لما خلق السموات والأرض وصار عاطلا! - تعالى الله عن ذلك - بل هو سبحانه يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.

واليوم في القرآن - وفي اللغة - ليس هو بالضرورة ما مقداره من طلوع الشمس إلى غروبها.

والمسيح لم يأتي في الجملة بشرع ناسخ لما في التوراة من أحكام إنما جاء مصدقا لما فيها من الأحكام وقد ورد عنه أنه قال: لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ.

كما أن رسالته لم تتمحور حول كونه الملك الذي ينتظره اليهود بل الحث على التوبة و التحذير من عاقبة العصيان و التمرد الذي لن يجلب عليهم سوى إدالة العدو عليهم حتى يجتاحهم و يخرب مدينتهم و هيكلهم - وهو ما تنبأ به سفر دنيال من قبل وأشار القرآن إليه في مطلع سورة الإسراء -حيث قال: وَمَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ، فَحِينَئِذٍ اعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ خَرَابُهَا. وقال: إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ. وهو ما حدث على أيدي الجيوش الرومانية عام 70 ميلادية. وأخبر تلاميذه أن هذه الأمور وشيكة حتى قال: إن هذا الجيل لن يزول قبل أن تحدث كل هذه الأشياء.

إلا أنه بشر باقتراب ما ينتظره اليهود أي مملكة الله على الأرض فقال: تُوبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ!

وبالرغم من أنه هو المسيح الذي ينتظرون إلا أن رسالته حينئذ لم تتمحور حول ذلك و لا بهذا كان يخاطب بني إسرائيل إنما استنبط اتباعه ذلك وكان يصدق على كونه المسيح إذا سئل هل هو المسيح أم لا. غير أنه بشر أتباعه بمجيئة الثاني – وإن لم ينادي بذلك في بني إسرائيل- وأن هذا يسبقه الأحداث الجسام التي تكلم عنها . والقرآن أشار إلى مجيئه الثاني بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ


 


فهذا يدل على أنه في زمانه لم يأتي ليستهل ملكوت السماوات بل ليبشر باقترابه ويؤكد على حقيقته. إلا أنه حذرهم أنه سينزع منهم لأجل تمردهم فيقول: لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ سَيُنْزَعُ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَيُسَلَّمُ إِلَى شَعْبٍ يُؤَدِّي ثَمَرَهُ. فَأَيُّ مَنْ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ يَتَكَسَّرُ، وَمَنْ يَقَعُ الْحَجَرُ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ سَحْقاً!.

فالحجر هو الذي ورد في سفر دنيال الإصحاح 2 وفسر على أنه مملكة الله على الأرض.

فهذه الأمة ليست هي بنى إسرائيل بل أمة أخرى كما قال المسيح لأن ملكوت الله ينزع منهم و يعطى لأمة أخرى تؤدي ثمره وعلى هذا كان مدار بشارة المسيح بملكوت السماوات كما في غير موضع من الأناجيل كما في متى 4:17 : مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك