اليهود المتنصرون

هذا الموضوع كتبته ونشرته قديما في منصات أخرى



كانت طائفة اليهود المتنصرون Jewish Christians تتألف ممن آمن بالمسيح من اليهود فى فلسطين قبل وبعد أن يتوفاه الله ويرفعه إليه وأحيانا يشار إليهم بالتسمية "إبيونيون" Ebionites باعتبارهم امتداد لهؤلاء في بداية القرن الثاني وهى مشتقة من كلمة عبرانية Evyonim وتعنى الفقراء ، وألتفت هذه الفرقة من بعد المسيح حول أحد أقرباء المسيح ، وقيل أخوه، وكان يسمى يعقوب وكانوا يعدونه لسان حالهم والمتحدث عنهم (1) Spokesman و إليه تُنسب أحد رسائل العهد الجديد وهى رسالة يعقوب إلا أنه بحسب دائرة المعارف البريطانية فإن هذه النسبة لاتؤيدها الدراسات العلمية الحديثة (2)

وكانوا لا يقولون بألوهية المسيح ولا بأزليته و لا وجوده السابق على ميلاده من مريم عليها السلام ثم انهم حفظوا السبت والشريعة وتمسكوا بكافة الفرائض كما أنهم قاوموا تعاليم بولس ولم يعتبروه رسولا ورفضوا رسائله واعتبروه مبتدعا ومرتدا عن الشريعة الموسوية وجاء أقدم ذكر لهم خارج العهد الجديد فى كتابات يوستينيوس ( حوالى 140 م ) تحديدا فى تلك المسماة حوار مع تريفو اليهودى وفيه أن ثمة طوائف من اليهود المتنصرين الذى يتمسكون بالشريعة ويلزمون بها أنفسهم دون غيرهم وآخرون يلزمون بها سائر المتنصرين (9). غير أن بعض ما ينسب إليهم من قبل خصومهم من آباء الكنيسة الأولين كنفي الميلاد العذري وأنهم نباتيون و يرفضون الأضاحي يجب ألا يُعول عليه كثيرا إذ أن هذا الذى ينقل فيه مظنة التشهير و التشويه والتقول .


 


وطبقا لما يرجحه بعض العلماء فإن هذه الطائفة عاشت متميزة عن بقية الطوائف النصرانية قبل وبعد خراب أورشاليم ( حوالى 70 م ) غير أنه تم اقصاء هذه الفرقة وتهميشها من قبل المتنصرين من غير اليهود بالرغم من أنها كانت أكثر ولاءاً للتعاليم الصحيحة ليشوع أو عيسى عليه السلام التاريخى ومن هؤلاء جيمز تابور James D. Tabor فى كتابه The Jesus Dynasty ، وروبرت أيزنمان Robert Eisenman فى كتابه James The Brother of Jesus وهانز-جواكيم سكويبس Hans-Joachim Schoeps فى كتابه Jewish Christianity : Factional Disputes in the Early Church ، وهيام ماكوبى Hyam Maccoby فى كتابه Mythmaker: Paul and the Invention of Christianity ، وبارى ويلسون Barrie Wilson فى كتابه How Jesus Became Christian ** . وقد ساعد على ذلك أن كثيرا منهم قتل واسترق وانفرط عقدهم نتيجة خراب أورشاليم ، وكانت معقلهم ، على يد الرومان .فضلا عن نتائج فشل التمرد الذى قام به باركوخبا Bar kochba ما بين عامى 132 ـ 135 م والتى كانت كارثية للشعب اليهودى وفى عداد هؤلاء اليهود المتنصرون حيث لم يترك يهودى فى أورشاليم إلا وقتل أو استرق أو طرد نهائيا من أورشاليم .

ومما يدل على أن عقيدة القديس يعقوب هى عقيدة اليهود المتنصرين و أنها لم تكن تختلف كثيرا عن اليهود التقليديين، خلا إيمانه برسالة عيسى عليه السلام ، أنه لما قامت السلطات الكهنوتية بإعدامه فإن هذا أثار سخط اليهود فى أورشاليم إذ أنه كان يتمتع فى وسطهم بسمعة طيبة لأجل تقواه وزهده وتمسكه بالشريعة (2) حيث يذكر المؤرخ اليهودى يوسيفوس فى كتابه ( XX : 9 ( Antiquities of the Jews أن رئيس الكهنة استغل فرصة خلو منصب الحاكم الرومانى Procurator بعد وفاة فيستوس Festus وقبل أن يتولى ألبينوس مهام منصبه فجمع " السنهدريم " وحكم على يعقوب بالرجم حتى الموت بتهمة خرق الناموس وأن صنيع رئيس الكهنة هذا اعتبر من قبل شريحة واسعة على أنه جريمة قتل وأزعج العقلاء والمنصفين فى المدينة المعروف عنهم الالتزام الصارم بالناموس ( الشريعة ) . فكيف يتصور لو أنه كان يدعو إلى ألوهية المسيح عيسى ابن مريم أن تعدل محكمة اليهود عن هذه التهمة الواضحة إلى تهمة هلامية كخرق الناموس أو أن يغضب لأجله يهود معروف عنهم الالتزام الصارم بالشريعة ؟!


 



كما يجب التنبيه أن القديس بولس لا يوجد ما يؤكد أنه كان يقول بألوهية المسيح بل اعتقاده فيه فيما يبدو، وهو ما يستنبط من الرسائل المنسوبة إليه، أنه أشبه بما يعرف فى الفلسفة اليونانية بالـ Demiurge أو Creative Principle وهذا يُوصف بانه Subordinate god أو إله من الدرجة الثانية (3) ، وهو الواسطة بين الله والعالم أو المادة والتى خُلق العالم من خلالها ، وكذا رؤية الفيلسوف " فيلو " السكندرى ( 15 ق م ـ 45 م ) لما يعرف بـ " اللوغوس " وقد سوّى الفيلسوف اليهودى الهيلينستى * " فيلو" بين " اللوغوس " Logos وهذا الـ Demiurge فيرى أن اللوغوس هو الواسطة التى خلق الله بها العالم والوسيلة التى من خلالها يمكن للعقل البشرى أن يدرك الله ، وكان يصف اللوغوس بأنه " الابن البكر لله " و رجل الله و " صورة الله " و " آدم السماوى "، باعتبار أن الله ( كما فى التكوين 1 : 26 ) خلق آدم على صورته ، وأنه فى المرتبة الثانية بعد الله (5) Second to God وهذا شبيه بما قاله بولس، وفق الرسائل المنسوبة إليه، فى شأن المسيح كقوله وفق الترجمة الكاثوليكية : هو صورة الله الذي لا يُرى و بكر كل خليقة ، ففيه خلق كل شيء مما في السموات ومما في الأرض ما يرى وما لا يرى أأصحاب عرش كانوا أم سيادة أم رئاسة أم سلطان كل شيء خلق به وله ( كولوسى : 1 ـــ 15 ، 16) ، و قد يكون في السماء أو في الأرض ما يزعم أنه آلهة، بل هناك كثير من الآلهة و كثير من الأرباب، و أما عندنا نحن فـليس إلا إلـه واحد و هو الآب، منه كل شيء و إليه نحن أيضا نصير. و رب واحد و هو يسوع، به كل شيء و به نحن أيضا ( كورنثوس الأولى : 8 ـ 5 ، 6 ) ، ولكني أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح ورأس المرأة هو الرجل ورأس المسيح هو الله. ( كورنثوس الأولى : 11 ـ 3 ) وهذا ما تعبر عنه الموسوعة البريطانية بقولها : يبرز " بولس " بشكل أوضح كيهودى مسيحى والذى أقنعته تجربة التحول أن المسيح كان ربا ( سيدا ) كونيا خاضعا لله و وكيلا وقائدا لمملكة الله ..(7)


 


إلا أن كون المسيح كان له وجود سابق على ميلاده من العذراء أو ما يعرف

بـ Pre-existence وبالتالى كونه هو اللوغوس أو الواسطة آنف الذكر فإن هناك من العلماء من ينازع فى أن هذا هو تصور بولس للمسيح وأن الشواهد التى تساق للدلالة على هذا مجازية أو إشارات بلاغية لميلاد المسيح من العذراء وخضوعه ، الذى يتخذ كمثال يُحتذى، لإرادة لله ، وأنه ثمَّ دليل فى التقاليد اليهودية فى ذلك الوقت أن سبق الوجود Pre-existence كان ينسب لبعض الأشخاص ويراد به مركزية الدور الذي يقوم به هؤلاء في تدابير الله. (8)

وقد يعزى هذا الانحراف الخطير ، بتقدير ثبوته ، فى تصور بولس ذو الخلفية الهيلينستية أنه أراد أن يروج لصورة مقبولة ومستساغة لرسالة المسيح فى أوساط الهيلينيين الذين بشر بينهم وأن يوفق بين دين المسيح وتصورات هؤلاء فما كان منه إلا أن قدم تصورا شائها للمسيح وديانته .

والجدير بالذكر هاهنا أن الذى استقر عليه البحث الأكاديمى ، وفق ما ذكرته " دائرة المعارف البريطانية " ، فى شأن الرسائل المنسوبة للقديس بولس أن من جملة 13 رسالة منسوبه إليه فإن ما يعرف بالرسائل الرعوية Pastoral letters ، وهى تيموثاوس الأولى والثانية و " تيطس " ، هى رسائل ملفقة وكذا الرسالة إلى أهل كولوسى والرسالة إلى أفسس هى بيد أحد أتباع بولس اللاحقين وكذا الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكى مشكوك فى صحتها ، فضلا عن الرسالة إلى العبرانيين والتى من المتفق عليه على الأقل فى الغرب أن من كتبها ليس هو بولس (10) .


------------ --------- --

(1)The Church in Ancient Society , Henry Chadwick , p. 38

(2) "James, Saint." Encyclopædia Britannica from Encyclopædia Britannica 2007 Ultimate Reference Suite. (2009).

The Chruch in Ancient Society , p. 45

(3) "Demiurge." Encyclopædia Britannica from Encyclopædia Britannica 2007 Ultimate Reference Suite. (2009).

(4) الموسوعة الحرة مقال بعنوان الإبيونيين Ebionites . **

(5) "Philo Judaeus." Encyclopædia Britannica from Encyclopædia Britannica 2007 Ultimate Reference Suite. (2009).


 


(6) "logos.." Encyclopædia Britannica from Encyclopædia Britannica 2007 Ultimate Reference Suite. (2009).

(7) "Paul, the Apostle, Saint ." Encyclopædia Britannica from Encyclopædia Britannica 2007 Ultimate Reference Suite. (2009).

(8) Cambridge Companion to Saint Paul , Cambridge Companions Online , p. 197 .

(9) الأب متى المسكين ، التقليد وأهميته ، ص 106 ، 107 .

A.F.J. Klijn & G.J. Reinink (1973). Patristic Evidence for Jewish-Christian Sects

(10) "biblical literature." Encyclopædia Britannica from Encyclopædia Britannica 2007 Ultimate Reference Suite. (2009).

من الأدلة التقليدية التى تقدم فى سياق الدلالة على أن بولس كان يقول بألوهية المسيح ما ورد فى رسالة تيموثاوس 1 ( 3 ـ 16 ) : وَبِاعْتِرَافِ الْجَمِيعِ، أَنَّ سِرَّ التَّقْوَى عَظِيمٌ: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ ..

والصواب : هو ( أى المسيح ) ظهر فى الجسد . راجع ذلك فى النسخة المعروفة بـ Contemporary English Version :

Here is the great mystery of our religion

Christ [g] came as a human.

حيث ورد فى حاشية الإصحاح :

1 Timothy 3:16 Christ: The Greek text has "he," probably meaning "Christ." Some manuscripts have "God."

هذا فضلا عن كون الرسالة ملفقة كما تقدم .


*هيلينى تعنى يونانى والهيلينستى Hellenistic نسبة للثقافة اليونانية التى كانت منتشرة فى حوض المتوسط والشرق الأدنى القديم ومنذ وفاة الإسكندر الأكبر .



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك