نبوءة القرآن بانتصار الروم

 إخبار القرآن بظهور الروم على الفرس في ظرف بضع سنين من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. الآية. وقوله: من بعد غلبهم – كما ذكر الزمخشري - هو من باب إضافة المصدر إلى المفعول كما في قوله تعالى: وهو محرم عليكم إخراجهم. فالهاء في "إخراجهم"عائدة على مفعول أي من يقع عليه فعل الإخراج وليس الفاعل الذي يقوم بالإخراج. وكذلك قوله تعالى: يحبونهم كحب الله في سياق قوله: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله. فإضافة المصدر حب إلى الله هي إضافة إلى مفعول لأن الحب هنا يقع من الناس على الله وليس أن الله هو من يحب وإلا لكان المعنى أن الله يحب الأنداد كما يحبهم هؤلاء الناس الذين يتخدون من دون الله أندادا. فقوله: من بعد غلبهم أي من بعد غلبة الفرس إياهم.

وفي الآيات إشارة للحرب الساسانية البيزنطية Byzantine–Sasanian War of 602–628 التي دارت رحاها على إثر انقلاب الإمبراطور "فوكاس" Phocas على سلفه "موريس" Maurice و الذى كان قد ساعد ملك الفرس "خسرو الثانى" Khosrow II في استعادة ملكه من المغتصب "بهرام جوبين" Bahrām Chōbīn فتذرع خسرو  باستنجاد أحد جنرالات موريس به ليغزو الإمبراطورية البيزنطية.

 و كان الذى استنجد به هو "نارسيس" Narses -  و الذى لم يعترف بفوكاس و استولى على مدينة الرها Edessa و حاصره فيها "فوكاس". وقد تمكنت الفرس بعد سلسلة من الانتصارات من الاستيلاء على بيت المقدس عام 614م - أي قبل الهجرة (13/9/622م) بثمانى سنوات  - على إثر هزيمة البيزنطيين  بقيادة "نيكتاس" ابن عم "هرقل" بالقرب من أذرعات (درعا) Adhri'at جنوب سوريا وهذا هو الحدث الذى تشير إليه الآية و فرح به المشركون في مكة. قال السيوطى رحمه الله: روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، وابن مردويه ، والبيهقي في "الدلائل"، والضياء عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في قوله تعالى : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) قال : غُلبت وغَلبت . قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ; لأنهم أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ; لأنهم أهل كتاب ، فذكر ذلك لأبي بكر ، ، فذكره أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما إنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا . فجعل أجلا خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ألا جعلتها إلى دون " أراه قال : " العشر " . " قال سعيد بن جبير : البضع ما دون العشر . ثم ظهرت الروم بعد .. و فى رواية ابن جرير فى تفسيره عن ابن مسعود رضى الله عنه : فمضى السبع سنين ولم يكن شيء، ففرح المشركون بذلك وشق على المسلمين، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : «ما بضع سنين عندكم؟» . قال : دون العشر . قال : «اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل» . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس، ففرح المؤمنون بذلك . وتجدر الإشارة ههنا إلى المقصود من قوله تعالى "أدنى الأرض" فهناك من فسرها بأقرب أرض الشام أو بلاد الروم إلى أرض العرب وهناك من فسرها بأخفض موضع على سطح الأرض مفترضا أن المعركة دارت رحاها على ساحل البحر الميت وهو بالفعل أخفض مكان على سطح الأرض حيث تقع هذه المنطقة تحت مستوى سطح البحر بأربعمائة و ثلاثة عشر مترا (413 -) (انظر مادة البحر الميت فى دائرة المعارف البريطانية) ويُشكل على ذلك أنه لم يرد هذا التفسير عن السلف واستعمال أدنى بمعنى أخفض فيه نظر فلم أجد له مثال في موضع آخر بمعنى الأسفل مكانا لكنها جاءت في مقابل العلو مكانة كما في حديث شعب الإيمان وفيه:الإيمانُ بضعٌ وسبعون شعبةً ، أعلاها قولُ لا إله إلا اللهُ ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريقِ. وكذلك حديث منازل أهل الجنة وفيه: سأَل مُوسَى ﷺ ربَّهُ، ما أَدْنَى أَهْلِ الْجنَّةِ مَنْزلَةً؟ قَالَ: هُو رَجُلٌ يجِيءُ بعْدَ مَا أُدْخِل أَهْلُ الْجنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخِلِ الْجنَّة. فَيقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ وقَدْ نَزَل النَّاسُ منَازِلَهُمْ، وأَخَذُوا أَخَذاتِهِم؟ فَيُقَالُ لهُ: أَتَرضي أَنْ يكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيا؟ فَيقُولُ: رضِيتُ ربِّ، فَيقُولُ: لَكَ ذَلِكَ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ، فَيقُولُ في الْخَامِسَةِ: رضِيتُ ربِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وعشَرةُ أَمْثَالِهِ، ولَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، ولَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رضِيتُ ربِّ، قَالَ: ربِّ فَأَعْلاَهُمْ منْزِلَةً؟ قالَ: أُولَئِك الَّذِينَ أَردْتُ، غَرسْتُ كَرامتَهُمْ بِيدِي وخَتَمْتُ علَيْهَا، فَلَمْ تَر عيْنُ، ولَمْ تَسْمعْ أُذُنٌ، ولَمْ يخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بشَرٍ رواهُ مُسْلم. إلا أن يقال أن علو المكانة ودنوها أصلا مشتق من الارتفاع و الهبوط المكاني فالفردوس وهو أعلى منازل أهل الجنة هو الأعلى مكانا أيضا كما في الحديث:  فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّه أوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعْلَى الجَنَّةِ - أُراهُ - فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ. رواه البخاري

ثم كانت الكرَّة للروم على الفرس فكانت باكورة انتصارتهم على الفرس سنة 622م – أي في ظرف بضع سنين من سقوط بيت المقدس - بقيادة الإمبراطور هرقل Heraclius و الذى كان قد قام هو و أبوه – هرقل الأكبر قائد  إكسرخسية قرطاج  Exarchate of Africa - بانقلاب عسكرى على فوكاس و استولى على القسطنطينية عام 610م غازيا إياها من طريق البحر و نصب نفسه إمبراطورا. وقد أضعفت هذه الحرب الأهلية الدولة البيزنطية وسمحت بتمدد الفرس.

 و قد قام هرقل بهزيمة الفرس في أسيا الصغرى في خريف عام 622م في شرقى المنطقة التي كانت تعرف بهيلينوبونتس Helenopontos على الساحل الجنوبى للبحر الأسود وهو ما شكل انتصارا حاسما للبيزنطيين.

 ثم استمرت حربه على الدولة الفارسية من خلال ثلاث حملات في الأعوام 624 و 625 و 627-628 من الميلاد على الدولة الساسانية حتى انتهت بانقلاب شيرويه (قباد الثانى) Kavadh II على أبيه "خسرو الثانى" وقتله و الذى جنح  للسلام مع الدولة البيزنطية و انسحب من كافة الأراضى التي احتلها الفرس بما فيها بيت المقدس عام 628م وبذلك استمرت سلسلة انتصارات الروم أيضا بضع سنين أي ما بين عامي 622م و 628م.

وقد تكون هذه أيضا إشارة لحملة هرقل في الداخل الساساني التي بدأت في مارس 624م على طول نهر آراس التي حقق فيها انتصارت على الفرس فقام بتدمير دبل عاصمة أرمينيا ونخجوان عاصمة أذربيجان وقام بتدمير معبد النار أذر غشسب بتخت سليمان شمال غرب إيران وواصل توغله حتى وصل إلى محل كسرى في أدورباداجان. وقد كانت غزوة بدر في مارس من نفس العام أيضا وربما هذا هو نصر الله الذي تشير إليه الآية على ما في بعض التفاسير.




حملات هرقل العسكرية ما بين عامي 624 و 628 في أرمينيا و الأناضول و الهلال الخصيب


وقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى "خسرو" بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام حمله إليه عبد الله بن حذافه كما ذكر ابن سعد في الطبقات – وأورده الألبانى في " السلسلة الصحيحة " 3/ 414- قال : و بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي و هو أحد الستة إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام و كتب معه كتابا : قال عبد الله فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرئ عليه ، ثم أخذه فمزقه ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم مزق ملكه و كتب كسرى إلى باذان عامله في اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فليأتياني بخبره ، فبعث باذان قهرمان و رجلا آخر و كتب معهما كتابا ، فقدما المدينة ، فدفعا كتاب باذان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم و دعاهما إلى الإسلام و فرائصهما ترعد ، و قال : ارجعا عني يومكما هذا حتى تأتياني الغد فأخبركما بما أريد ، فجاءاه من الغد فقال لهما : " أَبْلِغَا صَاحِبَكُمَا أَنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّهُ كِسْرَى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِسَبْعِ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْهَا " ، وَهِيَ لَيْلَةُ الثُّلاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ – أي من الهجرة وهو ما يوافق 14/9/ 628م- : " وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ " ، فَرَجَعَا إِلَى بَاذَانَ بِذَلِكَ فَأَسْلَمَ هُوَ وَالأَبْنَاءُ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ. إلا أن التاريخ الذى ذكره ابن سعد فيه نظر  لأن بعض المصادر تذكر أن "خسرو " قتل في 28/2/628م و في رواية أخرى عند ابن جرير : وأتى رسول الله   الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، من ليلة كذا وكذا من الليل، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله. .ثم ذكر أن الواقدى حدد تاريخ مقتله بجمادى الآخرة من سنة سبع ثم قال : قلت : وفي شعر بعضهم ما يرشد أن قتله كان في شهر الحرام، وهو قول بعض الشعراء: قتلوا كسرى بليل محرما * فتولى لم يمتع بكفن. وجمادى الأولى و الآخرة ليسا من الأشهر الحرم و الشائع أن الرسائل إلى الملوك كانت بعد صلح الحديبية والذي وقع في السنة السادسة للهجرة  كما ذكر الواقدى . وصلح الحديبية على الراجح أنه كان في ذي القعدة (مارس 627 م) وإن كان قد روى –كما ذكر ابن كثير في البداية و النهاية - عن هشام بن عروة عن أبيه أن الحديبية كان في شوال . ويعلق غوستاف لوبون فى "حضارة العرب (113)" قائلا :وقد قبلت دعوة النبى، فمزق خلفاؤه ملك كسرى كل ممزق من فورهم. أما حديث "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده"  فهذا الحديث –كما قال ابن الجوزى -  يشكل على من سمع أن كسرى لما هلك ملك بعده جماعة وكذلك قيصر والذي يزيل الإشكال أن كسرى وقيصر كانا في ملك ثابت فلما زالا تزلزل ملكهما وما زال إلى انمحاق وانقراض واضمحلال وما خلفهما مثلهما و كما قال أبو الوفاء بن عقيل  كانت العرب بين هذين الملكين كالكرة يلعبان بهم ويحملون إليهما الهدايا فلما هلك كسرى و قيصر المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم وقت أن ذكر هذا الكلام  فلا كسرى بعد ولا قيصر من حيث المضمون بمعنى كسرى و قيصر اللذان يهابهما العرب و يعملون لهما ألف حساب إنما هو اسم فارغ من المضمون ويدل على على هذا المعنى أنه لما بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى "بوران دخت" قَالَ : لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً، وفيه إخبار عما سيؤول إليه ملكهم من إضمحلال و زوال. 

المصادر:

Kaegi, Walter Emil (2003), Heraclius: Emperor of Byzantium,pp. 78, 115

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك