أصالة القرآن

 أصالة القرآن
إعادة نشر مع بعض الإضافات

كان " أبراهام جيجر" هو أول من أسس لتوجه في الدراسات الإسلامية الغربية للنيل من أصالة القرآن من خلال أطروحته في كتابه" ما الذي أخذه محمد من اليهودية " وفيه ما يشى بزعم المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم انتحل من اليهودية قصصه القرآني وتصوراته ومفاهيمه بل ربما ما هو أسوأ من مجرد الانتحال أنه في انتحاله أساء فهم ما ينقله ومن ثم مرره إلى أتباعه.

وكان المستشرق الألماني "يوهان فُك" أول من تتبع أطروحة "جيجر" في كتابه " حول أصالة النبي العربي" و الذي هاجم فيه هذا التوجه لدي "جيجر" مرجعا إياه إلى نزعة تحيزية إلى إيجاد مصدرية يهودية لكثير من المفاهيم والتصورات القرآنية، وانتقد أنه أغفل التغيرات الجوهرية التي طرأت على تلك المفاهيم والتصورات في طريقها إلى النص القرآني، كما انتقد تصور تلك التغيرات على أنها مجرد إساءة فهم وليست تعديلات ذات مغزى وتؤدي دورا وظيفيا. وانتقد إغفال أن القرآن كنص مؤسس يمثل استجابة -لأسئلة وإشكاليات معاصرة ملحة – استصحبت ونقحت و كيفت وأعادت تفسير القصص و صياغة المفاهيم. ورأى أن توجهه يفتقد إلى الرؤية الكلية وانتهى به المطاف لمجرد البحث عن مصدر ما لكل ما ورد بالقرآن بصرف النظر أكان فكرة أو تصور أو مبدأ قانوني أو قصة أو حتى كلمات مفردة!




و نحن وإن كانا لا نعتقد أن كون القرآن يحتوى قَصَصا أو مفاهيم أو تصورات ذات صلة بأسفار أهل الكتاب هو من باب القراءة المغايرة و إعادة التفسير أو التنقيح أو نحو ذلك إلا أن كون هناك اختلافات جوهرية يفند الزعم القائل بأن القرآن مجرد انتحال.



وأضرب مثالا على ذلك بنوع من القصص الأدبي يلجأ فيه الأديب إلى استعارة شخصيات وأحداث تاريخية مع إدخال بعض العناصر التأملية اللا تاريخية و إضفاء بعض التعديلات على خصائص الشخصيات وتفاصيل الأحداث كي تلائم وتخدم أغراض المؤلف في إيصال تصورات فلسفية معينة. ولا يوجد من النقاد من يوصِّف هذه الأعمال على أنها انتحال أدبي.



إلا أنه في حالة القرآن فرؤيته لقصص الأولين مثلا أنها تاريخ وليس مجرد اختلاق أو محض خيال إلا أن هذا التاريخ طاله التزوير و التحريف و التشويه في كثير من المواضع والسرد القرآني هو استعادة لهذا التاريخ ومن ثم تم توظيفه لاستخلاص الدروس و العبر. وكأن الحال ههنا هو المثال السابق لكنه مقلوبا رأسا على عقب. ففي روايات الفانتازيا التاريخية يتم تحوير التاريخ لكي يلائم أغراض المؤلف. أما في القرآن ففي الواقع التاريخي الذي يستعيده القصص القرآني غنى عن الخيال.


فعلى العكس مما يفترضه كثير من الكتاب الغربيين من أن القرآن يدمج عناصر من مصادر مختلفة في وحدة عضوية لخدمة أهداف معينة تتصل برسالته، فإن ما يفعله القرآن هو رد تلك العناصر إلى سياقها الأصلي. فمن انتزع تلك العناصر من سياقها الأصلي ووضعها في سياقات أخرى فضلا عن عمليات الاختلاق و التشويه هم مؤلفوا الكتاب المقدس بعهديه أو التناخ والأناجيل وغير ذلك من الأدبيات.



وأضرب مثلا على ذلك بميلاد المسيح، فلروح القدس دور في ميلاده لكن شتان بن مفهوم القرآن عن روح القدس و ميلاد المسيح ودور روح القدس فيه وتصور النصارى عن الأمرين من واقع إنجيل لوقا.
ففي القرآن روح القدس هو جبريل الملك الذي ينزل بالوحي ويؤيد به الأنبياء و الصالحين وأرسل إلى مريم ليبشرها بميلاد المسيح و نفخ في جيب درعها فحملت به وأن الله جعل ميلاده العذري آية لبني إسرائيل ومن كلامه في المهد دليلا على برائتها من ارتكاب الفاحشة. فهذا كله يؤكد به القرآن على بشرية المسيح وأنه عبدا مخلوقا ورسولا نبيا وأنه نفخ فيه من روحه كما نفخ في آدم.


أما تصور النصارى من واقع إنجيل لوقا أن الملك - دون أن يسميه - اقتصر دوره على تبشيرها بميلاد "ابن الله" من خلال حلول "الروح القدس" الذي هو الله في زعمهم وفي زعم اليهود أيضا على اختلاف بينهم في تصورهم عن روح القدس.
فقد ورد في إنجيل لوقا: فأجابَها المَلاكُ: الرُّوحُ القُدُسُ يَحِلُّ علَيكِ، وقُدرَةُ العليِّ تُظَلِّـلُكِ، لذلِكَ فالقدُّوسُ الّذي يولَدُ مِنكِ يُدعى اَبنَ اللهِ


فعند النصارى هو أحد الأقانيم الثلاثة التي يشكل كل منها عينا أو جوهرا قائما بذاته بينما عند اليهود רוח הקודש, ruach ha-kodesh هو صفة لله أو أحد تجلياته دون اعتباره عينا أو جوهرا مستقلا عن الذات.

فالاختلاف بين قصتي الميلاد في القرآن وإنجيل لوقا جوهرى على قدر جوهرية الاختلاف في التصور الإسلامي و النصراني عن طبيعة المسيح.

ومثال على ذلك أيضا صناعة العجل ففي الوقت الذي ينسب فيه العهد القديم للنبي هارون عليه السلام ذلك فقد برأه القرآن من هذه التهمة. والأدبيات الربانية وإن كانت بررت ذلك بخوفه من بطش بني إسرائيل إلا أن هذا لا يليق بمقام الأنبياء فالنبي لا يمكن أن يحمله خوفه من البطش على الشرك وصناعة الوثن فقط خشى هارون أن يفرق بين بني إسرائيل إن هو فارقهم وتبع موسى بل كادوا يقتلونه لما وعظهم. فذكر القرآن أن من صنع العجل هو شخص يلقب بكونه "سامري". وهذا على خلاف ما يظنه البعض ليس نسبة للسامرة بل إن السامرة سميت نسبة لسامر وهو الشخص الذي ابتاع منه الملك عمري التلة التي بنى عليها المدينة وتقول دائرة المعارف International Standard Bible Encyclopedia تحت مادة Shemer أن سامر ربما هو اسم عشيرة قديمة من بني إسرائيل لأن التلة كانت بالفعل تسمى شوميرون عندما اشتراها عمري.

ومثال على ذلك قصة القرية التي كانت حاضرة البحر. فزعم بعض الكتاب أن القرآن مزج عناصر من مصادر مختلفة. فزعموا أن مسخ المتمردين قردة هو مجتزأ من قصة برج بابل و التعدي يوم السبت هو من التلمود البابلي Kiddushin 72a عند حديثه عن أهل قرية في بلاد بابل كانت تأتيهم الأسماء في قناة يوم السبت فقاموا بنصب الشباك يوم السبت فعوقبوا على ذلك بالطرد من قبل الكاهن أحاي ابن الكاهن يوشيا وحكم عليهم بالردة. وكذلك قصة نهر سباتيون Sabbatyon و الذي تكلمت عنه مصادر مختلفة منها يوسيفوس و بليني الأكبر وبعض الأدبيات الربانية Genesis Rabba 11:5 والتلمود البابلي Sanhedrin 65b وفيها أن هذا النهر لا يجري إلا يوم السبت دون بقية الأيام بحسب يوسيفوس أو أنه يهدأ يوم السبت بحسب المصادر الأخرى. وفي بعض الأدبيات اليهودية الأخرى التي تعود إلى ما بعد عصر نزول القرآن أن الأسماك كانت تستقر على ضفاف ذلك النهر يوم السبت فضلا عن هدوئه. وكذلك قصة هامان والصرح وخلط ذلك ببرج بابل. فالتاريخ لا يذكر أنه كان لأي ملك فارسى وزير يدعى هامان في حين أن ذلك وارد في حالة فرعون على اعتبار أنه تعريب لـ Hm-ntr وكذلك ورد في التاريخ أنه للفرعون رمسيس الثاني زوجة - من أصل كنعاني على ما يبدو- تسمى است نفره ( تعريبه آسية) وكانت لها بنت من رمسيس تسمى بنت عنات أي ابنة الإلهة الكنعانية عنات كما أن القرآن لم يصرح أن هامان بنى صرحا بالفعل بل فقط أن فرعون أمره بذلك ربما من باب السخرية من موسى كما أن فكرة ارتقاء الصروح للوصول السماء ولقاء الآلهة كانت دارجة في مصر القديمة. كما أن ادعاء المصادر اليهودية أن تمرد قارون كان بعد الخروج من مصر بينما كان بنو إسرائيل في الصحراء هو ادعاء مجافي للعقل إذ من أين له في الصحراء كنوز تنوء بحمل مفاتيحها العصبة أولي القوة أو كنوز يحمل مفاتيحها فقط 300 من البغال بحسب تعبير التلمود Sanhedrin 110a. بينما ذكر القرآن أن قارون هلك بمصر وأنه كان من حاشية فرعون وهذا مثال متكرر على تزاوج المال والسلطة، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ 23 إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ 24 فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ. على أن القرآن ذكر أيضا أنه كان من قوم موسى فبغي عليهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك