مسألة التخييل

 

مسألة التخييل في النصوص الأدبية ينبغي تناولها بالنقاش أولا لأنها متعلقة ببعض مسائل الإعجاز العلمي الذي يأتي في صورة تشبيه مثل التشبيه في قوله " كزرع أخرج شطأه" و قوله "فأصابها إعصار فيه نار" وقوله "أو كظلمات في بحر لجي".

فهل كان هناك تخييل في النصوص الأدبية العربية قبل العصر العباسي وظهور اتجاه المحدثين في الشعر؟. فالمدرسة النقدية القديمة كانت تعتبر التشبيه المركب الخيالي والتخييلي كلاهما من الكذب الذي يخالف طريقة القدماء  ولا تستحسنه والذي استجد في  اتجاه المحدثين من الشعراء. وللإيضاح  فالمركب الخيالي من قبيل قول الصنوبري في وصف زهرة شقيقة النعمان:

 أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد.

فهو يصف بتلات الزهور وسيقانها كأنها رايات من حجر الياقوت نشرت على  رماح من الزبرجد. ففي الواقع لا يوجد راية تبسط بعد طيها مصنوعة من الياقوت لأنه حجر لا يطوى ولا يبسط.  أما التخييلي من قبيل قول ابن طباطبا:

لا تعجبوا من بلى غلالته ...  قد رز أزراره على القمر.

 الغلالة هي نوع من الثياب الداخلية. والبلى أي التلف والمعنى لا تعجبوا من تلف ثوبه فقد لبسه القمر (فهذا معنى زر أزراره أي  أدخلها في العُرَى وهي جمع عروة وهي مدخل الزر  ليغلق الثوب أو القميص) وكان هناك اعتقاد أن القمر يُبلي الثياب. فالشاعر هنا يدعو سامعيه للتصديق بأن الشخص الذي يصفه هو القمر نفسه وليس فقط يشبهه ومن ثم يدعوهم لعدم العجب من تلف الغلالة أو القميص. فهذا تخييل لأنه يعتمد على الإيهام. فقد أوهم المستمع بأن الشخص الموصوف هو القمر وليس مجرد أنه يشبه القمر.

فباستقراء أشعار  القدماء وجدوا ألا وجود للتخييل أو التشبيه الخيالي وأن أشعارهم اتسمت بالصدق والتلقائية في صورها البيانية (التشبيه والاستعارة) حتى تشكل في القرون الهجرية الأولى ما بات يعرف باتجاه القدماء في مقابل المحدثين.

 يقول محمد مندور في كتاب النقد المنهجي عند العرب: لِننظرْ في تشبيه امرِئ القيس وتشبيهِ بشَّار؛ لنرى كيف أنَّ امرَأ القيس لم يذهَب بعيدًا، وإنما طلب إلى حواسِّه المألوفة وإلى حياته الراهنة أن تأتيَه بهذا التشبيه الصادق القريب؛ تشبيهِ قلوب الطير التي افترَسَتها العُقَابُ بالعُنَّابِ والحشَفِ البالي: العُناب للقلوب الرَّطْبة، والحشَف للجافَّة، ثم ننظرْ في تشبيه بشارٍ التمثيلي، كما يقولون، فنراه يُشبِّه النَّقْع وقد انعقَد فوق الرءوس، والسيوفُ تضرب، بالليل تتهاوى كواكبُه، وبشَّارٌ لم يرَ الليلَ تتهاوى كواكبُه ولا رآه حتى المبصِرون؛ فهو تشبيهٌ بعيدٌ ليست له في النفس صورةٌ ما، ونحن لا نكاد نتصوَّر ليلًا تسقط نجومُه فيُشبه ذلك معركة ترتفع فيها السيوفُ ثم تسقط مُبرِقةً وسط النقع المُثار، ولا كذلك تشبيهُ امرِئ القيس. وهذا هو موضوع الخصومة؛ فأنصارُ القديم يرَون بحقٍّ أن الشعراء الجاهليِّين كانوا أصدقَ شعرًا، وأقربَ إلى المألوف من المحْدَثين الذين يُغْرِبون ويَبْعدون بنا عن مُعطَيات الحواسِّ المباشرة .... والأمر في المثل الثاني أوضح؛ فالنابغة لم يذهب بعيدًا لِيَدلَّ على قدرة النعمان، بل نظر إلى الليل الذي يُدركنا جميعًا أينما كنَّا فشبَّهه به، فجاء تشبيهًا صادقًا قريبًا قويًّا .

... وعلى هذا النحو نرى الفارقَ بين المذهبين: مذهب القدماء العريق في حقيقة الشعر من حيث إنه يُصاغ من مُعطَيات الحواسِّ المباشرة بعيدًا عن التجريد والإغراب، ومذهب المحْدَثين الذين يُسرِفون ويقتسرون ويضربون في عالم المجرَّدات. اهـ

ومن هنا فكافة الصور البياينة التي يستعملها القرآن هي مستمدة من الواقع فعندما يضرب مثلا بشيء ما فهذا يعني أنه يثبت وجوده في الواقع وليس أنه شيء من وحي الخيال.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك