الفطرة وعلم الإدراك

 تناولت العديد من الأعمال الأكاديمية نظرية المعرفة عند ابن تيمية ومفهومه عن الفطرة، لكن لم يقم أي عمل حتى الآن بتحليل آراءه  بالنظر إلى العلوم البيولوجية والنفسية الحديثة. وعلى وجه الخصوص، فإن "علم الإدراك الديني" CSR هو ذو أهمية قصوى لأطروحات ابن تيمية. فهو يبحث في كيفية ارتباط الإدراك البشري بالتجربة الدينية (Guthrie 1993; Atran 2002; Barrett 2011; Bering 2011; Johnson 2016). ويؤكد أن جوانب معينة من  النفس البشرية، بما في ذلك الإدراك والعواطف والبديهات والسلوكيات وما إلى ذلك، إما أن تكون فطرية أو يولد بها الطفل أو تتطور بشكل طبيعي مع نضوج الأطفال على اختلاف الأعراق والثقافات (Atran 2002; Barrett 2004; Kelemen 2004; Petrovich 2019). يشير علم الإدراك الديني  إلى أن هذه السمات الكلية المتجذرة في الطبيعة البشرية تفسر لماذا تشترك الأديان التي تطورت بشكل مستقل عن بعضها البعض تاريخياً في قواسم مشتركة مثيرة للدهشة على الرغم من اختلافاتها العديدة. هذه القواسم المشتركة هي نتاج للآليات البيولوجية والنفسية الأساسية التي يتقاسمها جميع البشر. تشير التجارب النفسية، على سبيل المثال، إلى أن مثل هذه الآليات تولد تصورات بديهية تظهر لدى الأطفال الصغار وتستمر حتى مرحلة البلوغ (Boyer 2001; Barrett 2011; McCauley 2011; Haidt 2012; Norenzayan 2013; Tomasello 2016). تتضمن هذه البديهات معتقدات بوجود كائنات روحية، أي كائنات تمتلك عقلًا ولكنها تفتقر إلى أجساد مادية، وأن الله موجود وأنه ليس جسدا، و أنه كلي القدرة وأنه هو خالق الكون، وأن الروح موجودة، وأن هناك حياة بعد الموت، وأن الأشياء السيئة تحدث لأولئك الذين يرتكبون الشر، وأن الأشياء الجيدة  تحدث لأولئك الذين يفعلون الخير (Boyer 2001; Atran 2002; Barrett 2004; Bloom 2007; Bulbulia 2007; McCauley 2011; Johnson 2016).

يمكن القول إن علم الإدراك الديني له تعلق بمنهج ابن تيمية أكثر من غيره من علماء الإلهيات المسلمين على مر التاريخ. وذلك بسبب تركيز ابن تيمية على الفطرة ووضعه للفطرة في المركز من منهجه المعرفي والوجودي.

 لقد تناول علماء دين آخرون مفهوم الفطرة أيضًا، لكن ابن تيمية يطرح مفهوم   الفطرة بأساليب فريدة تميزه عن غيره. في مذاهب العقيدة الإسلامية الكبرى، على سبيل المثال، الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة، فإن مفهوم العقل، وليس الفطرة، هو محور الاهتمام، وتحديدًا مفهوم العقل الذي يتبدى من خلال الانخراط بقوة وعمق من قبل علماء العقيدة المسلمين في التقليد الفلسفي اليوناني (Hallaq 1991; von Kügelgen 2013; El-Tobgui 2018). بالنسبة لهؤلاء العلماء، العقل هو الملكة التي يستعملها البشر للانخراط في عملية  الاستدلال المنهجي المبني على أساس من المعلومات الضرورية والمسبقة، في حين تتعلق الفطرة بالمعرفة البديهية التي لا تتطلب ذلك الاستدلال المنهجي (Abrahamov 1993; Hallaq 1993; Nakissa 2020b). 

من خلال التأكيد على الفطرة، ينقل ابن تيمية، في الواقع، الجدل العقدي بعيدًا عن نطاق الاستنتاج الفلسفي المنهجي، بكل خصوصياته واعتماده على التقليد الفلسفي اليوناني، وينقله إلى  ما يعتبره نطاق  الطبيعة البشرية العامة.

وهذا يعني أن الطبيعة البشرية هي مصدر للمعرفة الدينية بحيث أنه حتى الأطفال الصغار وعامة الناس يمكنهم الوصول إلى اليقين بشأن الله وصفاته، في حين رأت المذاهب  الأخرى أن اليقين لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الأدلة العقلانية التي لا يستطيع إلا المتمرسون في المنطق، والميتافيزيقا، وتحليل المعرفة الضرورية أو المسبقة - أي النخبة الفلسفية المتمرسة – أن يعالجوها. بالطبع، لا شيء من هذا يعني أن ابن تيمية كان يعتبر أن العقل والفطرة منفصلان تمامًا؛ في الواقع، اعتقد ابن تيمية وغيره من علماء العقيدة، مثل الفقيه الأشعري أبو حامد الغزالي، أن العقل جزء من الفطرة، أو على الأقل منبثق عنها. (Nakissa 2020b)

وبعبارة أكثر إيجازًا، يقدم علماء العقيدة الآخرون ادعاءات قليلة نسبيًا حول الطبيعة البشرية، في حين يقدم ابن تيمية العديد من الادعاءات حول الطبيعة البشرية التي يمكن تحليلها من خلال علم الإدراك الديني.

من خلال تطبيق علم الإدراك الديني، يمكننا أن نرى أن بعض الملامح الجوهرية  لمنظور ابن تيمية العقدي ومفهومه للطبيعة البشرية ترتكز على سمات للإدراك البشري أعمق وأعم. والتي لا تقتصر على خصوصيات تحيزات ابن تيمية، وبيئته، والضغوط السياسية في عصره، ونحو ذلك. إن الغرض من مقارنة رؤية ابن تيمية بنتائج علم الإدراك هو إثبات الدعوى القائلة بأن ملامح  العقيدة الإسلامية قد تكون نابعة من الطبيعة البيولوجية والسيكولوجية للبشر، وليس من التأثير الثقافي البحت والسياق التاريخي. 

يساعد علم الإدرك في تفسير مصدر بعض الالتزامات العقدية الرئيسية لدى ابن تيمية. على سبيل المثال، يتمسك ابن تيمية بفكرة ميل الأطفال إلى الإيمان بالله. فمن أين جاء ابن تيمية بهذه الفكرة؟ أحد التفسيرات هو أنه ببساطة ورث هذا الاعتقاد من المؤسسات الإسلامية التي تنشر هذا الاعتقاد من خلال السلطة المؤسسية. قد يكون هناك تفسير آخر وهو أن الأطفال، في واقع الأمر، يميلون إلى الإيمان بالله، وقد لاحظ ابن تيمية ذلك بنفسه من خلال ملاحظة الأطفال، أو من خلال الاستبطان أو مطالعة النفس، حيث أدرك ذلك  الأمر عن معتقداته في طفولته، ونحو ذلك. وهذا التفسير الأخير - وهو لا يتعارض مع التفسير الأول – قد نجد له سند من خلال أبحاث علم الإدراك التي تعالج  مسألة ما إذا كان الأطفال يميلون بشكل طبيعي إلى الإيمان بالله أم لا. فإذا كان الأطفال لديهم هذا الميل، فمن الممكن أن يفسر هذا مصدر رؤية ابن تيمية، أو على الأقل، من شأنه أن يمنحنا فهما أدق لعقيدة ابن تيمية ولماذا يتمسك بالتصورات التي يؤمن بها بشدة.

الفطرة

تعتمد نظرية  ابن تيمية المعرفية بوجه عام  بشكل كبير على مفهوم الفطرة (Vasalou 2016; El-Tobgui 2020). يتفق ابن تيمية مع علماء العقيدة الآخرين على أن الفطرة هي ملكة يولد بها الإنسان وهبها الله والتي تهييء الإنسان  للإيمان بالله وتولد لديه بديهيات قيمية معينة (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 7، ص 426). يقول ابن تيمية صراحةً أن الفطرة ليست محملة بكل دقائق العقيدة الإسلامية. بل إن الفطرة تدفع الإنسان إلى الإيمان بالله والاستسلام له وللحقيقة بوجه عام (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المجلد 4، ص 247). والفطرة ضرورية أيضًا، بحسب ابن تيمية، في تيسير بعض الوظائف المعرفية، مثل القدرة على الاستنتاج أو استعمال اللغة (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 5، ص 62). بالنسبة لابن تيمية، فإن الفطرة هي مرتكز كافة الروافد المعرفية البشرية، أي الحس (الإدراك الحسي)، والخبر (الروايات و الشهادات)، والعقل (El-Tobgui 2020, p. 18). في جوهرها، تسبق الفطرة الروافد المعرفية الأخرى، ولأن الميل إلى الإيمان  بالله وعبادته هو جوهر الفطرة، فإن هذا يجعل وجود الله الحقيقة المعرفية الأكثر مباشرة التي يمكن للبشر الوصول إليها. والأهم من ذلك، أن الفطرة هي أيضًا ملكة يمكن أن تفسد، في المقام الأول من خلال العوامل البيئية، وخاصة تنشئة الفرد والظروف الاجتماعية بوجه أعم (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 7، ص 73).

الأخلاق

وفضلا عن الإيمان بالله والدافع العام للبحث عن الحقيقة، أشار علماء العقيدة الإسلامية، بما في ذلك ابن تيمية،  إلى أن الفطرة تتضمن محتوى أخلاقي (Vasalou 2016, p. 36). وبشكل أكثر تحديدًا، تزود الفطرة البشر بشعور بديهي بالصواب والخطأ إلى جانب الدافع  لفعل ما هو صواب وتجنب  ما هو خطأ. ووفقاً لابن تيمية، فإن العدل والعمل الصالح "محبب" إلى الفطرة، ويسبب  اللذة كلما فُعل. في حين أن الظلم والعمل الفاسد يولّد الألم والمشاعر غير السارة وهذا كله بداعي الفطرة (ابن تيمية، الرد على المنطقيين، ص 423). يقول ابن تيمية: والنفوس مجبولة على محبة العدل وأهله وبغض الظلم وأهله وهذه المحبة التي في الفطرة هو المعني بكونه حسنا وهذا البغض هو المعني بكونه قبيحا. (ابن تيمية، الرد على المنطقيين، ص 429).

ويبدو أن هذه المحبة الجبلية الموجود في الفطرة تنطوي على دواعٍ ذات طبيعة مآلية، أي دواع أخلاقية تبنى على النظر في مآلات الأفعال من حيث أضرارها و منافعها. فمثلاً يقول ابن تيمية: “إن خير أفعال الإنسان وشرها هو ما فيه من نفع وضر” (ابن تيمية، الرد على المنطقيين، ص 422). ومع ذلك، فإن المحبة الجبلية، كما يصفها ابن تيمية، تنطوي أيضًا على دواع موجِبة – أي دواع نابعة من  الحسن أو القبح الذاتي المتأصل في الفعل بغض النظر عن اعتبارات الضرر و المنفعة – وعلى القدرة على إصدار أحكام جمالية بخصوص الروائح والأصوات ونحو ذلك. يقول ابن تيمية: فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود [في] نفسه، فهو يفعله لما فيه من المحبة له، لا لله، ولا لغيره من الشركاء، مثل أن يحب الإحسان إلى ذوي الحاجات، ويحب العفو عن أهل الجنايات، ويحب العلم والمعرفة وإدراك الحقائق، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، فإن هذا كثير غالب في الخلق في جاهليتهم وإسلامهم، في قوتي النفس العلمية والعملية، فإن أكثر طلاب العلم يطلبونه محبة، ولهذا قال أبو داود للإمام أحمد بن حنبل: طلبتَ هذا العلمَ - أو قال -: جمعته لله؟ فقال لله عزيز، ولكن حُبِّب إليَّ أمر ففعلته. وهذ حال أكثر النفوس، فإن الله خلق فيها محبة للمعرفة والعلم وإدراك الحقائق، وقد يخلق فيها محبة للصدق والعدل والوفاء بالعهد، ويخلق فيها محبة للإحسان والرحمة للناس، فهو يفعل هذه الأمور: لا يتقرب بها إلى أحد من الخلق، ولا يطلب مدح أحدٍ ولا خوفًا من ذمِّه، بل لأن هذه الإدراكات والحركات يتنعَّم بها الحيُّ ويلتذُّ بها، ويجد بها فرحًا وسرورًا، كما يلتذ بمجرد سماع الأصوات الحسنة، وبمجرد رؤية الأشياء البَهِجَة، وبمجرد الرائحة الطيبة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي