بلاغة القرآن

 بلاغة القرآن


بعض آيات القرآن يشكل على الناس فهمها ليس لأن هناك قصورأو خلل في بناء العبارة  كما يتوهم و يزعم الجهال و الأغرار بل لأن المفردات  الشائعة الاستعمال  تتغير  فما كان شائعا في سياق تاريخي معين لا يكون كذلك في غيره. و تتنوع دلالات المفردات  ويتغير الاستعمال الذي تُوظف فيه من سياق تاريخي وثقافي لآخر. و التراكيب التي قد يكون لها معنى مفهوم واضح في إطار تاريخي وثقافي معين قد لا تكون كذلك في سياق آخر. وهذا لا يختص بالقرآن بل إذا طالعت كثير من أشعار الجاهليين وأقوال الصحابة ستجد كثير من المفردات و التراكيب التي لا تكاد تفهم لها معنى. خذ على سبيل المثال قول الحباب بن المنذر في اجتماع سقيفة بني ساعدة: أنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُها المُرَجَّبُ.  ففي سياقنا التاريخي و الثقافي لا نكاد نفهم المفردات على حدة فضلا عن المعنى العام للعبارة. فالجذيل تصغير جذل وهو أصل الشجرة و المحكك من حك وهو الذي تحك الإبل المصابة بالجرب نفسها فيه ليزول الإحساس بالحكة. والفحوى أنه – أي الحباب- بالنسبة للمسألة المطروحة، وهي قضية الخلافة، بمثابة الجذيل المحكك للإبل  أي رجل يستشفى برأيه كما تستشفي الإبل الجربى بالجذيل.

ولأن السياق التاريخي و الثقافي الذي نزل فيه القرآن يختلف عن الذي وضعت فيه التفاسير كانت هناك بعض المفردات و التراكيب المشكلة على الناس في زمن وضع التفاسير – وحتى زماننا - و لهذا لجأ المفسرون إلى الروايات عن الصحابة و التابعين في تفسير القرآن فضلا عن الاستعانة  بعلوم اللغة لفهم معاني الكلمات و التراكيب في السياق التاريخي و الثقافي لنزول القرآن. والقرآن نفسه أشار إلى أنه لو نزل على بعض الأعجمين ما كانوا ليفقهوا معانيه فضلا عن أن يؤمنوا به. فكذلك الحال بعد اختلاط الألسن وفشو اللحن و تغير المفردات الشائعة  واختلاف الدلالات وإن كان بدرجة أقل من حالة الأعجمي الذي لا يفقه  شيئا من العربية ألبتة.

أما الإبهام في القرآن فقد تكلمت عنه في غير هذا الموضع  ويمكن مراجعة ماكتبته بهذا الشأن هنا

أما الإجمال فلا يتعارض مع البلاغة إذا كان ما أُجمل في موضع قد فُصِّل في آخر فليس من البلاغة في شيء ذكر نفس الشىء بالتفصيل في كل مرة تدعو الحاجة إلى ذكره بل تكفي الإشارة إليه إجمالا.

ومن هذا الباب ذكر تكذيب ثمود وذبحهم للناقة في سورة الشمس فقوله "إذ انبعث أشقاها" بعد قوله "كذبت ثمود بطغواها" 

معناه أنهم كذبوا بلسان  حالهم  وحالهم هو الطغوى – أي الطغيان – ثم علل لماذا وصف حالهم بالطغيان بقوله " إذ انبعث أشقاها" وإذ هنا حرف تعليل. وانبعث أي هب وجرد نفسه لهذه المهمة أي ذبح الناقة ووصف ذلك الرجل بأنه أشقى القوم لإقدمه على ذبح الناقة بيده فكلهم أشقياء وهو أشقاهم. فقال لهم رسول الله – وهو صالح – ناقةَ الله و سقياها. أي احذروا  أو اجتنبوا ناقة الله و سقياها – أي شِرْبها أو حظها من الماء - ولهذا فكلمة ناقة منصوبة على التحذير.

وهذه القصة وردت مفصلة في مواضع أخرى بما يغني عن التفصيل هنا. فقال تعالى: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ۖ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ *  فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ. وقال: قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ.

أما مناسبة ذكرها في سورة الشمس هي أن الله أقسم بالنفس البشرية وبنفسه بعد أن أقسم بالشمس و القمر و النهار و الليل –لأنها من آياته في الكون – وأقسم ببيانه للحق و الباطل و الصواب و الخطأ وهذا معنى قوله: فألهمها فجورها وتقواها. أو بتيسير كل نفس لما خلقت له من أعمال التقوى و الفجور فقد أقسم بهذا كله على قوله " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" ودساها أي أغواها. والهاء عائدة على النفس. يقال: دَسَّى الوَلَدَ : أَفْسَدَهُ، أغْوَاهُ. فمناسبة ذكر تكذيب ثمود هو كمثال على الخيبة التي تلحق بمن يختارسبيل الفجور و الغواية. وقد بين لهم الصواب من الخطأ والحق من الباطل وهذا هو قوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فقوله "هديناهم" أي بينا لهم أو  أعلمناهم الهدى والضلالة. 

فالقرآن ككل يشكل سياق لفظي أو لغوي لفهم  بعض ما أجمل في مواضع منه.

وكذلك لا يتعارض مع البلاغة الإشارة  المجملة إلى أمور يفهم المخاطبون من سياق الحال المقصود بها. وسياق الحال هو سياق خارج عن النص. على سبيل المثال إذا كان لديك ولد أمرته بمذاكرة أحد دروسه ثم لقيته لاحقا وسألته هل ذاكرت الدرس؟ فلا يعد ذلك إخلالا بالبلاغة لأن المخاطب يفهم من قرينة سياق الحال أي درس تقصده على وجه التحديد. 

فكذلك كثير من الآيات التي فهم المخاطبون بها وهم المسلمون الأوائل المقصود بها من سياق الحال. خاصة أن القرآن نص تفاعلي.

كقوله تعالى: إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم. إلى آخر الآيات التي تتناول الخروج للإغارة على قافلة قريش وما تلا ذلك من قوع غزوة بدر وانتصار المسلمين في تلك الواقعة. فالمسلمون المخاطبون بتلك الآيات فهموا ما المقصود من الطائفتين – وهما العير و النفير- وأنهم رغبوا أن يظفروا بالعير لا بالنفير فهذا معنى قوله: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم. أي تظفروا بالطائفة التي لا شوكة  لها والشوكة أي السلاح. والطائفة ذات الشوكة هي النفير أي الطائفة أو القوم الذين نفروا للقتال.

وكذلك لا يتعارض الإجمال مع البلاغة إذا كانت التفاصيل ليست ذات أهمية بالنظر للغرض الذي لأجله جاء على ذكر ذلك الأمر الذي ذكر إجمالا.

ومثال ذلك قصة الخصم اللذين تسورا المحراب فدخلا على داود ففزع منهما فقالا نحن خضمان بغى بعضنا على بعض ثم قص أحدهم عليه قصة مفادها أن لأحدهما نعجة وللآخر تسع وتسعون فطلب هذا الأخير من الأول أن يضم نعجته إلى نعاجه. فهذا قد يفهم منه نعجة على الحقيقة أو قد تكون النعجة مثل مضروب للزوجة. وطلب ضمها هو تطليقها ليتزوجها صاحب التسع وتسعين زوجة، ثم قد يكون المقصود من الخصمين نفس المتكلمين أو أنهما مثلان مضروبان لداود وأوريا الحثي على ماورد في أسفار أهل الكتاب.

فالغرض هو أن يقول أن داود تمنى أو طمع فيما ليس له بحق على كثرة ما عنده وأن الله عاتبه من خلال إرسال الخصمين وأن داود أدرك خطأة و استغفر وتاب. لكن هل الأمر اقتصر على مجرد التمنى أم أنه بالفعل انتزع المرأة من زوجها بإرساله للحرب ليموت فيها فهذا لا أهمية له بالنسبة للغرض الذي لأجله جاء على ذكر المسألة إجمالا وهو أنه لا يجوز للمرء أن يطمع فيما عند غيره. ومن هذا الباب قوله تعالى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ. وفي الحديث:  وارْضَ بما قسم اللهُ لكَ تَكُن من أَغْنَى الناسِ.


وقد تكلمت في مواضيع مستقلة عن سور الفيل  وقريش و الكوثر و التين.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البشارة في الإنجيل

مناهج الغربيين في الحديث النبوي

الفطرة وعلم الإدراك